الحنين
هل أتاك حديث الصمة بن عبد الله وقد خطب ابنة عمه، وكان لها محبًّا، فاشتط عليه عمه
في
المهر، فاستعان بأبيه وكان مثريًا فلم يعنه، فَأَمَّ عشيرته فأسعفوه، ثم ساق الإبل إلى
عمه،
فقال لا أقبل هذه في مهر ابنتي، فسل أباك أن يبدلها لك. فسأل أباه ذلك فأبى عليه، فلما
رأى
ضن أبيه وإباء عمه قطع عقلها وخلاها فعاد كل بعير إلى أهله … ويروى أن أباه أعطاه تسعة
وتسعين بعيرًا فأبى عمه إلا مائة وحلف أبوه لا يكملها، فقال الصمة: والله ما رأيت ألأم
منكما، وإني لألأم منكما جميعًا إن أقمت بينكما، ثم رحل إلى الشام. فقالت ابنة عمه: تالله
ما رأيت كاليوم رجلًا باعته عشيرته ببعير!
تأمل أيها القارئ هذه القصة الوجيزة، وأكملها بما لديك من وثبات الخيال، ولا تطالبني
بأكثر من هذا الإيجاز، فإنما أتخذه مقدمة لدرس قصيدة الصمة في الحنين … ألم تر إليه وقد
طالت غربته، فعبث الشوق بقلبه، واعتادته ذكرى أحبابه وأوطانه، فقال يعاتب نفسه، ويحاور
فؤاده:
أمن ذكر دار بالرقاشين أصبحت
بها عاصفات الصيف بدءًا ورجعًا
حننت إلى ريا ونفسك باعدت
مزارك من ريا وشعباكما معا
فما حسنٌ أن تأتي الأمر طائعًا
وتجزع إن داعي الصبابة أسمعا
ثم أخذ يخاطب رفيقيه — وقد بالغا في لومه وأطالا في تأنيبه — فقال:
ألا يا خليليَّ اللذين تواصيا
بلومي إلا أن أطيع وأتبعا
قِفا إنه لا بد من رَجْعِ نظرة
يمانيةٍ شتى بها القوم أو معا
لمغتصَبٍ قد عزَّه القوم أمره
حياءً يكف الدمع أن يتطلعا
ثم شرع في تعجيزهم وتيئيسهم فقال:
فإن كنتم ترجون أن يذهب الهوى
يقينًا ونروى بالشراب فننقعا
فردوا هبوب الريح أو غيروا الجوى
إذا حل ألواذ الحشا فتمنعا
ومن يستطيع ذلك؟ تالله ما العاذل وإن اشتط في عذله، وبالغ في لومه، بقادر على نسيانك،
أو
سلوانك:
ظن الهوى لِبسة تبلى فيخلعها
فكان في القلب مثل القلب في البدنِ
ثم عاد إلى رفيقيه يسألهما الإسعاد والإنجاد:
قفا ودعا نجدًا ومن حل بالحمى
وقَلَّ لنجدٍ عندنا أن يُوَدَّعا
مسكين! وقل لنجد أن يودع! إذن فما كنت صانعًا لو أنصفته؟ أكنت تُغرب في البكاء والإعوال
حتى يرحمك أعداؤك، ويرثي لك حاسدوك؟ أم كنت تقتل نفسك جوًى وحزنًا؟ ثم قال:
بنفسيَ تلك الأرض ما أطيب الربى
وما أجمل المصطافَ والمتربعا
وليست عشيات الحمى برواجعٍ
إليك ولكن خل عينيك تدمعا
اتق الله في نفسك يا ابن عبد الله وارحم شبابك وصبرك:
واستبق دمعك لا يودي البكاء به
واكفف مدامع من عينيك تستبق
فما الشئون وإن جادت بباقيةٍ
ولا الجفون على هذا ولا الحدَق
ثم أخذ يصف موقفه وقد حال (البِشْر) بينه وبين أحبابه وأوطانه، فقال:
ولما رأيت (البشر) أعرض دوننا
وحالت بنات الشوق يحننَّ نُزَّعا
بكت عيني اليسرى فلما زجرتها
عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا
وقد رأيت من الأدباء من يستنكر هذا الخيال، وهو عندي من دلائل الوله وعلائم الصبابة
المضلة. ثم قال في وصف ما لاقى في تلفته من العَنَت:
تلفتُّ نحو الحي حتى وجدتني
وَجِعت من الإصغاء لِيتًا وأخدعا
وهو معنى جميل نال في هذا البيت حظه من البيان. وقد تبعه الشريف الرضي فأبدع وأجاد
في
قوله:
ولقد مررت على ديارهم
وربوعها بيد البلى نَهْبُ
فوقفت حتى ضج من لغَبٍ
نضوى ولجَّ بعذلي الركب
وتلفتَتْ عيني فمذ خفيت
عنى الربوع تلفت القلب
ويمتاز بيت الصمة بتمثيله ما يعرف الناس في مثل هذه المواقف من ظاهر النعب، فأما بيت
الشريف فلا يعرف حسنه غير من كابد الشوق وعانى الصبابة. ثم قال الصمة في تتمة الحديث
عن
جواه:
وأذكر أيام الحمى ثم أنثني
على كبدي من خشيةٍ أن تصدعا
ولم أر هذا المعنى لأحد قبل الصمة، وقد أكمله ابن نباتة السعدي بقوله:
أضم على قلبي يديَّ مخافةً
إذا لاح لي برق من الشرق لامعُ
وهل ينفع القلبَ الذي بان إلفه
إذا طار شوقًا أن تضم الأضالع
ومن الحنين قول ابن عبد ربه:
ودعتني بزفرة واعتناقِ
ثم نادت متى يكون التلاقي
وبدت لي فأشرق الصبح منها
بين تلك الجيوب والأطواق
يا سقيم الجفون من غير سقم
بين عينيك مصرع العشاق
إن يوم الفراق أفظع يوم
ليتني مت قبل يوم الفراق
لأن الشاعر قد يرتحل فيأخذ في ذكر المعاهد والعهود، وقد يظعن حبيبه ويقيم، فيأخذ في
الإعوال عليه، والحنين إليه، وهناك من غرائب الهوى وعجائب الصبابة حالة ثالثة ليست أقل
من
سابقتيها جوًى وحزنًا، بل ربما كانت أكثر حيرة؛ وهي أن يلتقي الركبان وفيهما محب ومحبوب،
ثم
يفترقان قبل أن يتلاقى الصبان، ويجتمع الخلان، فلا يدري العاشق أي عهد يبكي، وأي حظ يندب،
كما لا يعرف أيلوم نفسه لأنه ظعن وترك حبيبه مقيمًا، أم يشكو دهره لأن حبيبه سار وخلَّفه،
أم يعول إعوالًا مبهما لا يعرف مصدره، ولا يفهم مبعثه، والشعر في هذا المعنى أقرب إلى
الذكرى منه إلى الحنين، من الجيد فيه قول الأرجاني:
أستودع الله قومًا كيف أبعدنا
تقلب الدهر منهم حين أدنانا
زموا الغداة مطاياهم لفرقتنا
لما أنخنا للقياهم مطايانا
لم تشتبك بعدُ أطناب الخيام لنا
ولا المنازل ضمتهم وإيانا
لكنهم عاجلونا بالنوى ومضوا
وخلفوا الطرِب المشتاق حيرانا
لم يملأ العين من أحبابه نظرًا
إذ غادر الدمع منه الجفن ملآنا
وإني موافيك ببديع الشعر وشجيه، فيما يمثل حال المحب نأى عنه حبيبه، أو خلف أحبابه
وسار،
فمن الأول قول سبط التعاويذي:
أتعود أيامي برامةَ بعد ما
سكنت بجرعاء الحمى آرامها
وأحلها البين المشت محِلةً
بعُدت مراميها وعز مرامُها
سارقتها نظر الوداع فما ارتوت
نفسٌ يزيد على الورود هُيامها
يا غادرين وغادروا بجوانحي
لبعادهم نارًا يشب ضِرامها
بنتم فلا عيني تجف غُروبُها
أسفًا ولا كبدي يُبل أُوامها
جودوا لعين المستهام بهجعة
فعسى تمثلكم لها أحلامها
لا تتلفوا بالبين مهجة عاشق
سيان بينَ حَميمها وحِمامُها
أعداه من هيف الخصور نُحولها
يومَ النوى ومن العيون سقامها
ولم أجد في هذا المعنى أشجى وأوجع من قول بعض المتيمين:
لبكاء هذا اليوم صنت مدامعي
وكذا العزيز لكل خطب يُذخرُ
يا ساكني وادي العقيق فدتكم
عينٌ مدامعها عقيق أحمر
بنتم فما استعذبت بعد حديثكم
لفظًا ولم يَحْسُنْ لعينيَ منظر
والبيت الأخير مأخوذ من قول ابن أبي ربيعة:
لم يحبب القلب شيئًا مثل حبكم
ولم تر العين شيئًا بعدكم حسنا
فأما شعر من نأوا عن أحبابهم، وخلوا معاهد أنسهم، فهو كثير، ومن جيده قول الأبيوردي
يتشوق
إلى أحبابه وقد خلاهم ببغداد:
ألا ليت شعري هل أراني بِغَيْضَةٍ
أبيت على أرجائها وأقيلُ
هواءٌ كأيام الهوى لا يغبهُ
نسيمٌ كلحظ الغانيات عليل
وعصر رقيقُ الطرتين تدرجت
على صفحتيه نضرة وقبول
وأرض حصاها لؤلؤ وترابها
تضوع مسكًا والمياه شمول
بها العيش غض والحياة شهيةٌ
وليلي قصير والهجير أصيل
فقل لأخلائي ببغداد هل بكم
سلو فعندي رنةٌ وعويلٌ
ترنحني ذكراكمُ فكأنما
تميل بي الصهباء حيث أميل
لئن قصرت أيام أنسي بقربكم
فليلي على نأي المزار طويل
وقال أعرابي من بني عُقيل:
أحن إلى أرض الحجاز وحاجتي
خيامٌ بنجد دونها الطرف يقصر
وما نظري نحو الحجاز بنافعي
بشيء ولكني على ذاكَ أنظر
أفي كل يوم نظرةٌ ثم عبرةٌ
لعينيك يجري ماؤها يتحدر
متى يستريح القلب إما مجاورٌ
حزينٌ وإما نازح يتذكر
وقال آخر في الحنين إلى أيامه السوالف:
سقى الله أيامًا لنا قد تتابعت
وسقيا لعصر العامرية من عَصر
لياليَ أعطيتُ البطالة مِقودي
تمر الليالي والشهور ولا أدري
ومن شائق الحنين قول ابن الدمينة:
ألا لا أرى وادي المياه يثيب
ولا النفس عن وادي المياه تطيب
أُحب هبوط الواديين وإنني
لمشتهر بالواديين غريبُ
أحقًّا عباد الله أن لست واردًا
ولا صادرًا إلا علي رقيب
ولا زائرًا فردًا ولا في جماعةٍ
من الناس إلا قليل أنت مُريب
وهل ريبة في أن تحن نجيبة
إلى إلفها أو أن يحن تجيب
وأن الكثيب الفرد من جانب الحمى
إلي وإن لم آتهِ لحبيب
لك الله أني واصل ما وصلتِني
ومُثنٍ بما أوليتني ومثيب
وآخذ ما أعطيتِ عفوًا وإنني
لَأزْوَرُ عما تكرهين هيوب
فلا تتركي نفسي شَعاعًا فإنها
من الوجد قد كادت عليكِ تذوب
وإني لأستحييك حتى كأنما
علي بظهر الغيب منك رقيبُ
وفي هذا المعنى يقول صاحب البدائع:
تجمل بالسماح ودع ملامي
وكن عون المحب المستهامِ
ففي أسيوطَ لو تدري حبيب
هجرت لبعدهِ طيبَ المنام
أسيت له يحن إلى لقائي
ودون مرامه كيد اللئام
إذا ما الليل جن ونام صَحبي
مَشت نار التذكر في عِظامي
سلامٌ أيها النائي سلامٌ
وهل يغني عن اللقيا سلامي