الذبول والنحول
وقد يأسى الشعراء لِما عانوا في الحب من الضمور والشحوب، فيرى بعضهم أنه لم يبق له
لحم
ولا دم، كما قال المؤمل:
حلمتُ بكم في نومتي فغضبتم
ولا ذنب لي إن كنت في النوم أحلم
سأطرد عني النوم كيلا أراكم
إذا ما أتاني النوم والناس نُوَّمُ
تُصارمني والله يعلم أنني
أبرُّ بها من والديها وأرحم
وقد زعموا لي أنها نذرت دمي
وما لي بحمد الله لحمُ ولا دم
برى حبها لحمي ولم يُبق لي دمًا
وإن زعموا أني صحيحٌ مسَلم
فلم أر مثل الحب صح سقيمُه
ولا مثل من لم يعرف الحب يسقم
ستقتل جلدًا باليًا فوق أعظمٍ
وليس يبالي القتل جلدٌ وأعظم
ومنهم من يبلى جسمه، ولا يبلى شوقه، كما قال أبو تمام:
يا جفونًا سواهرًا أعدمتْها
لذةَ النوم والرُّقاد جُفونُ
بَلِيَ الجسمُ لكن الشوق حيٌّ
ليس يبلى وليس تبلى الشجون
إن لله في العباد منايا
سلطتها على القلوب العيون
ويقرب من هذا المعنى قول السري الرفاء:
فِداؤك من أوردته منهل الردى
ووِرْد الردى للعاشقين يَطيبُ
وما مات حتى أنحل الحب جسمَه
فلم يبق فيه للتراب نصيب
والأرجاني يذكر أن طيفه لو زار حبيبه لحمل شخصه إليه لنحوله، ويقول:
يُرَوِّي ضاحيَ الوجنات دمعي
ويعدل عن لهيب جوًى دخيلِ
وما نفعي وإن هطلت غيوثٌ
إذا أخطأن أمكنة المحُول
هُمُ نقضوا عهودي يوم بانوا
وأبدَوا صفحة الطرف الملول
وفوا بالهجر لما أوعدوني
وكم وعدوا الوصال ولم يفوا لي
وفي الركب الهلاليين خِشفٌ
تعرض يوم تشييع الحُمول
أصاب بطرفه الفتان قلبي
وكيف يصاب ماضٍ من كليل
بخلتَ وقد حظيتَ بصفو ودِّي
وإن من العناء هوى البخيلِ
وبت لو استزرت اليوم طيفي
لجر إليك شخصي من نحولي
ولكن لا سبيل إلى شفاءٍ
إذا مال الطبيب على العليل
ومنهم من يذكر أنه ضنَى حتى لو تعلق بعود ثُمامٍ ما تأوَّد، كما قال الحسين بن مطير
الأسدي:
خليليَّ هل ليلى مؤديةٌ دمي
إذا قتلتني أو أميرٌ يقيدها
وكيف تقاد النفس بالنفس لم تقل
قتلت ولم يشهد عليها شهودها
ولن يلبث الواشون أن يصدعوا العصا
إذا لم يكنُ صلبًا على البريِ عودها
نظرت إليها نظرة ما يسرني
بها حُمر أنعام البلاد وسودها
ولي نظرة بعد الصدود من الجوى
كنظرة ثكلى قد أصيب وحيدها
فحتى متى هذا الصدود إلى متى
لقد شف نفسي هجرها وصدودها
فلوَ انَّ ما أبقيتِ مني معلقٌ
بعود ثُمامٍ ما تأوَّد عودها
وقال الحارثي في وصف آثار النحول:
سلبتِ عظامي لحمها فتركتها
مجردة تضحى لديك وتخصَرُ
وأخليتِها من مخها فكأنها
أنابيب في أجوافها الريحُ تصفرُ
إذا سمعت باسم الفراق تقعقعت
مفاصلها من هول ما تتنظرُ
خذي بيدي ثم ارفعي الثوب تنظري
بيَ الضرَّ إلا أنني أتستر
فما حيلتي إن لم تكن لكِ رحمةٌ
علي ولا لي عنك صبرٌ فأصبر
ويقول ابن الأحنف:
انظر إلى جسدٍ أضر به الهوى
لولا تقلب طرفه دفنوهُ
وتابعه المتنبي فقال:
كفى بجسمي نحولًا أنني رجل
لولا مخاطبتي إياك لم ترني
وفي مثل هذا المعنى يقول صاحب البدائع وقد أرسل صورته إلى بعض أحبابه:
سكنتَ إلى النوى ونسيتَ صبًّا
نحيلًا كاد يقتلهُ الحنين
فلمَّا لم يجد في الحب صبرًا
ولم ترحم جوانحه الشجون
تفانى في النحول فلو تبدى
لما فطِنتْ لخطرَته العيونُ
وها هو كالخيال أتاك يسري
مخافة أن تُظَنَّ به الظنونُ
فأكرم نُزلهُ وارحم ضناه
فإن فؤادك الحرم الأمين
وقال بعض الشعراء:
إن الذي أبقيت من جسمهِ
يا متلفَ الصب ولم يشعر