التلفت إلى معالم الوجد
ومن أوجع ما تحدث به المتيمون، تلفتهم إلى معاهد الحب: عند الوداع، وبعد الفراق.
قال بعض الرواة: مررت بحمى الربذة فإذا صبيان يتقاسمون١ في الماء، وشاب جميل الوجه ملوح الجسم قاعد، فسلمت عليه فرد علي السلام. وقاله:
من أين وضح الراكب؟ قلت: من الحمى. قال: ومتى عهدك به؟ قلت: رائحًا. قال: وأين كان مبيتك؟
قلت: أدنى هذه المشاقر.٢ فألقى نفسه على ظهره، وتنفس الصعداء. فقلت تفسأ٣ حجاب قلبه، وأنشأ يقول:
سقى بلدًا أمست سُليمى تحلهُ
من المزن ما تُروى به وتسيمُ
وإن لم أكن من قاطنيه فإنه
يحلُّ به شخص عليَّ كريم
ألا حبذا من ليس يعدل قربه
لديَّ وإن شط المزار نعيم
ومن لامني فيه حبيب وصاحبٌ
فرد بغيظٍ صاحبٌ وحميم
ثم سكت سكتة كالمغمى عليه، فصحت بالأصبية، فأتوا بماء فصببته على وجهه فأفاق وأنشأ يقول:
إذا الصب الغريب رأى خشوعي
وأنفاسي تزين بالخشوعِ
ولى عينٌ أضر بها التفاني
إلى الأجزاع مطلقة الدموع
إلى الخلوات تأنس فيك نفسي
كما أنِس الوحيد إلى الجميع
والشاهد في الأبيات الأخيرة، وما أوجع تلفت القلب بعد العين في قول الشريف:
تلفت حتى لم يبن من بلادكم
دخان ولا من نارهن وقودُ
وإن التفات القلب من بعد طرفه
طوال الليالي نحوكم ليزيد
ولما تدانى البين قال لي الهوى
رويدًا وقال القلب أين تريد
أتطمع أن تسلو على البعد والنوى
وأنت على قرب المزار عميد
ولو قال لي الغادون ما أنت مُشته
غداة جزعنا الرمل قلت أعود٤
أأصبر والوعساء بيني وبينكم
وأعلام خبتٍ، إنني لَجليدُ!
وانظر قوله من كلمة ثانية:
ترحلت عنكم لي أمامي نظرة
وعشرٌ وعشر نحوكم من روائيا
ومن حذرٍ لا أسأل الركب عنكم
وأعلاق وجدي باقيات كما هيا
ومن يسأل الركبان عن كل غائب
فلا بد أن يلقى بشيرًا وناعيا
١
يتقاسمون: يتغاطون. يقال قسمته في الماء غططه فيه.
٢
المشاقر: منابت العرفج.
٣
تفسأ: تشقق وانصدع.
٤
جزع من باب منع، يقال جزع الأرض قطعها.