حلاوة الملام
ومن المحبين من يستعذب اللوم، لذكر الحبيب، كما قال أبو نواس:
أحب اللوم فيها ليس إلا
لترداد اسمها فيما ألام
ويدخل حبها في كل قلب
مداخلَ لا تغلغلها المدامُ
وفي هذا المعنى يقول محمد بن أبي أمية:
وحدثني عن مجلس كنتِ زَيْنَهُ
رسولٌ أمينٌ والنساء شهود
فقلت له رُدَّ الحديث الذي مضى
وذكرك من بين الحديث أريد
وقد ظرُف البها زهير حين قدم رضى الحبيب على رضى العذول، وقال:
يا من يهدد بالصدو
دِ نعم تقولُ وتفعلُ
قد صح عذرك في الهوى
لكنني أتعلل
قل للعذول لقد أطلـ
ـت لمن تلوم وتعذل
عاتبت من لا يرعوي
وعذلت من لا يقبل
غضب العذول أخف من
غضب الحبيب وأسهل
وما أبدع قول أبي فِراس:
أساءَ فزادته الإساءة حُظوة
حبيبٌ على ما كان منه حبيبُ
يَعُدُّ علي العاذلون ذنوبَه
ومن أين للوجه المليح ذنوب؟
والرقيب أخو اللائم في تنغيص حياة العشاق، ومن طريف الشعر في الألم لقرب الرقيب قول
ابن
المعتز:
وا بلائي في محضٍر ومغيبِ
من حبيب مني بعيدٍ قريبِ
لم تَرِدْ ماء وجهه العين إلا
شرقِتْ قبل رِيِّها برقيبِ
وقوله:
قد دنت الشمس للمغيبِ
وحان شوقي إلى الحبيبِ
طوبى لمن عاش عُشر يومٍ
لهُ حبيبٌ بلا رقيبِ
وما أظرف من يقول:
لسهم الحب جرح في فؤادي
وذاك الجرح من عين الرقيبِ
يوكِّل ناظريه بنا ويحكي
مكان الكاتبين من الذنوب
فلو سقط الرقيب من الثريا
لصُبَّ على محبٍّ أو حبيب
وانظر كيف ضُرب المثل بغفلة الرقيب في قول أحد الظرفاء:
يسقيك من كفهِ مُدامًا
ألذ من غفلة الرقيبِ
كأنها إذ صَفَت ورَقتْ
شكوى محبٍّ إلى حبيب
وقد كلِف سعيد الوراق بغلام من الرهبان فأصبحوا وكلهم رقباء، وفيهم يقول:
بربك يا حمامة دير زكى
وبالإنجيل عندكِ والصليبِ
قِفي وتحملي مني سلامًا
إلى قمر على غُصنٍ رطيب
حماه جماعة الرهبان عني
فقلبي ما يقرُّ من الوجيب
وقالوا رابنا إلمام سعد
ولا والله ما أنا بالمريب
وقولي سعدك المسكين يشكو
لهيب جوى أحر من اللهيب
فصِلهُ بنظرة لك من بعيدٍ
إذا ما كنت تمنع من قريب
وإن أنا مُتُّ فاكتب حول قبري
محب مات من هجر الحبيب
رقيبٌ واحدٌ تنغيص عيشٍ
فكيف بمن لهُ ألفا رقيب؟
إنه لا بد مقتول، كما قتل صاحب هذه الأبيات!