لوعة الشوق
نمتع القارئ في هذا الباب بألوان من سحر الحديث عن تغلغل الشوق في طيات الفؤاد. فمن
ذلك
قول أحد الشعراء وقد اشتاق إلى أرض جِلق، وتمنى لو كحل أجفانه بترابها:
وإن اصطباري عن معاهد جِلقٍ
غريبٌ فما أجفى الفراقَ وأجفاني
سقى الله أرضًا لو ظفرت بتربها
كحلت بها من شدة الشوق أجفاني
وقال أبو بكر بن سعادة يتشوق إلى قرطبة:
أقرطبة الغراء هل ليَ أَوْبَةٌ
إليك وهل يدنو لنا ذلك العهدُ
سقى الجانب الغربي منك غمامةٌ
وقعقع في ساحات دوحاتك الرعدُ
لياليك أسحارٌ وأرضك روضةٌ
وتربك في استنشاقه عنبرٌ ورد
وإني ليبكيني قول الشريف:
ذكرت الحمى ذكر الطريد مَحلهُ
يُذادُ ذيادَ العاطشات ويُرجعُ
وأين الحمى لا الدار بالدار بعدهم
ولا مربَعٌ بعد الأحبةِ مربَع
سلامُ على الأطلال لا عن جَنابَة
ولكن يأسًا حين لم يبق مطمعُ
نشدتكمٌ هل زال من بعد أهلهِ
زرودٌ وهل زالت طُلولٌ وأربُعُ
نعم عادني عيد الغرام ونبهتْ
علي الجوى دار بميثاءَ بلقع
وطارت بقلبي نفحة غضَويَّة
تنفسَها حالٍ من الروض مُمرِع
نظرت الكثيب الأيمن اليوم نظرة
ترد إلي الطرف يَدمَى ويَدمعُ
وأيقظت للبرق اليماني صاحبًا
بذات النقا يخفى مِرارًا ويلمَع
أأنت معيني للغليل بنظرةٍ
فنبكي على تلك الليالي ونجزع
مَعاذ الهوى لو كنت مثليَ في الهوى
إذن لدعاك الشوق من حيث تسمع
هناك الكرى، إني من الوجد ساهٌر
وبرء الحشا، إني من البين موجَعُ
فلا لب لي إلا تماسك ساعةٍ
ولا قوم لي إلا النعاسُ المروع
ألا ليت شعري كل دار مُشتةٌ
ألا موطنٌ يدنو بشملٍ ويجمع
وانظر كيف يقول:
وما حائمات يلتفتن من الصدى
إلى الماء قد مُوطِلنَ بالرشَفان
إذا قيل هذا الماءُ لم يملكوا لها
مَعَاجًا بأقرانٍ ولا بمثانِ
بأظما إلى الأحباب مني وفيهم
غريمٌ إذا رمت الديون لواني
فيا صاحبيْ رحلي أقِلَّا فإنني
رأيت بليلى غير ما تريانِ
ويا مُزجي النِّضو الطليح عشيةً
تُراكَ ببطن المأزمين تراني
وهل أنا غادٍ أنشد النبلة التي
بها عَرَضًا ذاك الغزال رَماني
وانظر كيف يستمطر الدمع حين يقول:
خذوا نظرةً منىٍ فلاقوا بها الحمى
ونجدًا وكثبان اللوى والمطاليا
ومُروا على أبيات حيٍّ برامةٍ
فقولوا لديغٌ يبتغي اليوم راقيا
وقولوا لجيرانٍ على الخَيف من مِنى
تراكم من استبدلتُم بجواريا
ومن حل ذاك الشعب بعدي وأرشقت
لواحظهُ تلك الظباء الجوازيا
ومن ورد الماءَ الذي كنت واردًا
به ورعى الروض الذي كنت راعيا
فوا لهفتي! كم لي على الخيف شهقةٌ
تذوب عليها قطعة من فؤاديا
صفا العيش من بعدي لحي على النقا
حلفت لهم لا أقرب الماء صافيا
فيا جبل الريان إن تعرَ منهم
فإني سأكسوك الدموع الجواريا
ويا قرب ما أنكرتمُ العهد بيننا
نسيتم وما استودعتم الود ناسيا
أأنكرتمُ تسليمنا ليلة النقا
وموقفنا نرمي الجمارَ لياليا
عشية جاراني بعينيه شادنٌ
حديث النوى حتى رمى بي المراميا
رمى مقتلي من بين سجفيْ غبيطهِ
فيا راميًا لا مسك السوءُ راميا
فيا ليتني لم أعلُ نشزًا إليكم
حرامًا ولم أهبط من الأرض واديا
ولم أدر ما جمعُ وما جمرتا مِنًى
ولم ألق في اللاقين حيًّا يمانيا
ويا ويح نفسي كيف زايدت في مهًا
بذي البان لا يُشرَيْنَ إلا غواليا
ويقول الأبيوردي يصف شوقه إلى حبيبته:
وأقسمُ بالبيت الرحيب فناؤه
وبالحجَر الملثوم والحِجْرِ والركن
لأنتِ إلى نفسي أحب من الغنى
وذكرك أحلى في فؤادي من الأمن
ويصور الحارث بن خالد شوقه إلى عائشة بنت طلحة بشوق الغريق إلى النجاة، ويقول:
يا أم عمران ما زالتْ وما برحت
بنا الصبابة حتى مسنا الشفقُ
القلب تاق إليكم كي يلاقيكم
كما يتوق إلى مَنجاته الغرِقُ
وإنكَ لتلمس حرارة الشوق في قول العذري:
لو جُز بالسيف رأسي في مودتكم
لمرَّ يهوي سريعًا نحوكم راسي
ولو بَلي تحت أطباق الثرى جسدي
لكنت أبلى وما قلبي لكم قاسي
أو يقبض الله روحي صار ذكركم
روحًا أعيش به ما عشت في الناس
لولا نسيمُ لذكراكم يُروِّحني
لعدت محترقًا من حَرِّ أنفاسي
والشوق يحمل ابن الدمينة على أن يحمد لحبيبته ذكرها له بالمساءَة ويقول:
أرى الناس يرجون الربيع وإنما
ربيعي الذي أرجو نوالُ وصالكِ
أرى الناس يخشون السنين وإنما
سِنيَّ التي أخشى صروفُ احتمالكِ
لئن ساءني أن نلِتني بمساءة
لقد سرني أني خطرت ببالكِ
ليَهنِك إمساكي بكفي على الحشا
ورقراق عيني رهبة من زِيالك
وانظر لوعة الشوق في قول أحد المتيمين:
أقول لأصحابي وهم يعذلونني
ودمع جفوني دائم العبرات
بذكر مِنى نفسي فبلوا إذا دنا
خروجي من الدنيا جُفوف لهاتي