الدمع عند الوداع
نذكر هنا نماذج من وصف الدموع عند الفراق، فمن ذلك قول ابن الرومي:
لو كنت يوم الفراق حاضرنا
وهن يطفين غلة الوجد
لم تر إلا دموع باكية
تقطر من مقلة على خد
كأن تلك الدموع قطر ندى
يقطر من نرجس على ورد
وقد يؤخذ على هذه الأبيات ما فيها من الغزل في غير حينه، وهو قول أبي نواس في
جنان:
يا قمرًا أبصرت في مأتم
يندب شجوًا بين أتراب
يبكي فيذري الدر من نرجس
ويلطم الورد بعناب
والأدباء يرون هذا من وثبات الخيال، ونراها أخيلة عادية ليس لها جمال خاص، فقد يجد
الشاعر
في الجميلة الباكية ما ينسيه وصف طرفها الساحر وخدها الأسيل! وقد أجاد ابن الرومي أو
كاد في
قوله:
تلاقينا لقاء لافتراق
كلانا منه ذو قلب مروع
فما افترت شفاه عن ثغور
بل افترت جفون عن دموع
ومما جمع بين براعة التصوير، ومتانة التعبير، قول المتنبي:
لما تقطعت الحمول تقطعت
نفسي أسى وكأنهن طلوح
وجلا الوداع من الحبيب محاسنًا
حسن العزاء وقد جُلين قبيح
فيه مسلمة، وطرف شاخص
وحشًا يذوب ومدمع مسفوح
يجد الحمام ولو كوجدي لانبرى
شجر الأراك مع الحمام ينوح
وقال مهيار في الاعتذار عما للمودع من الزفرات والعبرات:
دعوني فلي إن زمَّت العيس وقفة
أعلم فيها الصخر كيف يلين
وخلوا دموعي أو يُقال نعم بكى
وزفرة صدري أو يقال حزين
فلولا غليل الشوق أو دمعة النوى
لما خُلقت لي أضلع وجفون
وهي مدافعة حسنة تذكرنا بقول صردر:
إذا لم أفز منكم بوعد فنظرة
إليكم فما نفعي بسمعي وناظري
وقال السري الرفاء في ذكر مظاهر الوداع: من اللوعة، والحنين، وتخديد الخد بالدمع،
مع ذهاب
العزاء:
وقفتنا النوى على الكره منا
موقفًا ضم شائقًا ومشوقا
حال ورد الخدود فأضحى النـ
ـرجس الغض بالدموع غريقا
لوعة أفرطت فعادت حريقا
وحنين أربى فعاد شهيقا
وخليق بلوعة الحب صب
لم يكن بالعزاء فيه خليقا
ومن شجي الشعر في ذلك قول الشريف الرضي:
ولما تواقفنا ذهلت ولم يحن
لطير قلوب العاشقين وقوع
عشية لي من رقبة الحي زاجر
عن الدمع إلا أن تشذ دموع
وقد أمرت عيناك عيني بالبكا
فقل لي أي الآمرين أطيع
ولهذا الشعر مزية خاصة: وهي ترتيب المعاني ترتيبًا لولا حيرة المودع لكان غاية في
الوضوح.
ولا يفوتنا أن نذكر هنا قول ابن زريق:
ودعته وبودي لو يودعني
صفو الحياة وأني لا أودعه
وكم تشفع بي أن لا أفارقه
وللضرورات حال لا تشفعه
وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحى
وأدمعي مستهلات وأدمعه
ومن الشعراء من يفرح بالوداع، إذ يمكنه من معشوقة قد لا تراها العين إلا عند الرحيل.
فمن
ذلك قول البحتري:
إن للبين نعمة لا تؤدى
ويدًا في تماضر بيضاءَ
حجبوها حتى بدت لفراق
كان داءً لعاشق ودواء
أضحك البين يوم ذاك وأبكى
كل ذي صبوة وسر وساء
فجعلنا الوداع فيه سلامًا
وجعلنا الفراق فيه لقاء
وفي هذا المعنى يقول بعض الظرفاء:
لم أنس إذ ودعته والتقى
ذا البدن الناعم والناحل
كأنما جسمي على جسمه
غصنان ذا غض وذا ذابل
يا رب ما أطيب ضمي له
إلي لولا أنه راحل!
وقد ألم الشريف بهذا المعنى في هذه الأبيات:
أفي كل يوم لفتة ثم عبرة
على رسم دار أو مطي موقف
وركب على الأكوار يثني رقابهم
لداعي الصبا عهد قديم ومألف
فمن واجد قد ألزم القلب كفه
ومن طَرَبٍ يعلو الْيَفَاعَ ويُشرف
ومستعبر قد أتبع الدمع زفرة
تكاد لها عوج الضلوع تثقف
قضى ما قضى من أنة الشوق وانثنى
بدار الجَوَى والقلب يهفو ويرجُف
ولم تغن حتى زايل البعد بيننا
وحتى رمانا الأزلم المتغطرف
١
كأن الليالي كن ألين حلفة
بألا يرى فيهن شمل مؤلف
أيا وقفة التوديع هل فيك راجع
إشارته ذاك البنان المطرف
وهل مطمعي ذاك الغزال بلفتة
وإن ثور الركب العجال وأوجفوا
٢
وهذه الأبيات وصف سابغ للمرور بمنازل الأحباب، ولكنَّ فيها تصويرًا لانتهاب الحسن
عند
الوداع، وإمتاع العين باللفتة وإشارة البنان، وليست هذه المتعة بالشيء القليل!