وما أكثر حنين الشعراء إلى الأيام السوالف، والليالي الخوالي!
ويذكرون أن المتوكل أحب أن ينادمه الحسين بن الضحاك؛ ليرى ما بقي من ظَرفه وشهوته
لما كان
عليه، فأحضره وقد كبر وضعُف، فسقاه حتى سكر وقال لخادمه شفيع: اسقه! فسقاه وحياه بوردة،
وكانت على شفيع أثواب موردة، فمد الحسين يده إلى درع شفيع، فقال المتوكل: أتجس غلامي
بحضرتي؟ فكيف لو خلوت به! ما أحوجك يا حسين إلى أدب! وكان المتوكل غمز شفيعًا على العبث
به،
فقال الحسين: يا سيدي! أريد دواة وقرطاسًا. فأمر له بهما فكتب:
وكالوردة البيضاء حيا بأحمرِ
من الورد يسقى في قراطق كالورد
له عَبثاتٌ عند كل تحيةٍ
بكفيه يستدعي الخلي إلى الوجدِ
تمنيت أن أسقى بكفيه شربةً
تذكرني ما قد نسيت من العهد
سقى الله عيشًا لم أبت فيه ليلة
من الدهر إلا من حبيب على وعد
فطرب المتوكل لهذا الشعر، وهم بتقديم الغلام إليه، لو كان مما تسمح بمثله النفس!
وانظر ما يقول ابن هانئ في ذكرى أيامه السوالف:
قُمنَ في مأتمٍ على العشاقِ
ولبسن السواد في الأحداق
وبكين الفراق بالعنم الرطـ
ـب المقنا وبالخدود الرفاقِ
ومنحن الفراق رقة شكوا
هن حتى عشقت يوم الفراق
ومع الجيرة الذين غدوا دمـ
ـع طليقُ ومهجة في وثَاق
حاربتهم ذوائب الدهر حتى
آذنوا بالفراق قبل التلاقي
ودنوا للوداع حتى ترى الأجـ
ـيادَ فوق الأجيادِ كالأطواق
يوم راهنتُ في البكاء عيونًا
فتقدمتُ في عنان السباق
أمنع القلب أن يذوب ومن يمنـ
ـع جمر الغضى عن الإحراق
رب يوم لنا رقيق حواشي اللهـ
ـو حُسنا جوَّال عقد النطاق
قد لبسناه وهو من نفحات الـ
ـمسكِ درع الجيوب درع التراقي
وما أوجع قول ابن الرومي في البكاء على لياليه الخوالي:
أأيام لهوي هل مواضيك عُوَّدُ
وهل لشبابٍ ضل بالأمس مُنشِدُ
رُزئتُ شبابي عودةً بعد بدأةٍ
وهن الرزايا بادئاتٌ وعُود
سُلبتُ سواد العارضين وقبلهُ
بياضهما المحمود إذ أنا أمرد
وبُدلتُ من ذاك البياض وحُسنه
بياضًا ذميما لا يزال يُسوَّد
لشتان ما بين البياضين: معجبٌ
أنيق ومنشوءٌ إلى العين أنكد
وكنت جلاءً للعيون من القذى
فقد جعلت تقذي بشيبي وترمَد
هي الأعين النجل التي كنت تشتكي
مواقعها في القلب والرأس أسود
فما لك تأسى الآن لما رأيتها
وقد جعلت مرمى سواك تَعمَّد
تشكى إذا ما أقصدتك سهامها
وتأسى إذا نكبن عنك وتكمد
كذلك تلك النبل من وقعت بهِ
ومن صُرفت عنه من القوم مُقصد
إذا عدلت عنا وجدنا عدولها
كموقعها في القلب بل هو أجهد
وبيضاء يخبو دُرُّها من بياضها
ويذكو له ياقوتها والزبرجد
إذا ما التقى السُّكران: سكر شبابها
وأكوابها، كادت من اللين تعقد
لهوت بها ليلا قصيرًا طويلهُ
وما ليَ إلا كفها مُتوسَّد
وكم مثلها من ظبيةٍ قد تفيأتْ
ظِلالي وأغصان الشبيبة مُيَّدُ