الدمع بعد الفراق
ذكرنا في الكلمة السالفة مذاهب الشعراء في وصف الوداع، واليوم نذكر من شعرهم في الدمع
بعد
الفراق، فمن ذلك قول دعبل في راحلين ما يدري أيلقاهم وهو حي، أم ينتظرهم في عالم
البقاء:
ألم يأن للسفر الذين تحملوا
إلى وطن قبل الممات رجوع
فقلت ولم أملك سوابق عَبرة
نطقن بما ضمت عليه ضلوع
تبين فكم دار تفرق شملها
وشمل شتيت عاد وهو جميع
طوال الليالي صرفهن كما ترى
لكل أناس جدبة وربيع
ويذكر صاحب «مواسم الأدب» أن المأمون كان يعجب بهذه الأبيات، وكذلك كان المؤلفون «يسجلون»
إعجاب الملوك بما يقول الشعراء، كأن الشعر «نقود» لا يتداولها الناس إلا إن حملت شارات
الملوك! على أن من العدل أن نذكر بهذه المناسبة أن إقبال المأمون على الشعر الجيد، وتشجيعه
للشعراءِ المجيدين، كان مما رفع الأدب ونهض بالأدباء. وهناك ظاهرة أخرى لإعجاب المأمون
بهذه
القطعة الوجدانية، هي إقبال كرائم النفوس على مناهل الوفاءِ، وإن أسبغت عليها نعمة العلم
والجاه! ولنا أن نقول: إن في عجز العلم والملك عن قتل الحب في صدور الملك والعلماءِ لدليلًا
على أن نعم الوجود تتلاشى أمام هذه النعمة الساحرة، القاهرة، نعمة الجمال! وفي الفزع
من
الموت قبل اللقاء، يقول الطغرائي:
إني لأذكركم وقد بلغ الظما
مني فأشرق بالزلال البارد
وأقول ليت أحبتي عاينتهم
قبل الممات ولو بيوم واحد
وللشريف الرضي في الوجد بعد الفراق شعر باك حزين كقوله:
الدمع مذ بعد الخليط قريب
والشوق يدعو والزفير يجيب
إن لم تكن كبدي غداة وداعكم
ذابت فأعلم أنها ستذوب
داءٌ طلبت له الأساة فلم يكن
إلا التعلل بالدموع طبيب
إما أقمت فإن دمعي غالب
لعواذلي وتجلدي مغلوب
ومن الشعراءِ من ينفد دمعه، فيوصي بالبكاءِ عنه، كما قال الشريف:
أيها الرائح المغذ تحمل
حاجة للمتيم المشتاق
اقر عني السلام أهل المصلى
فبلاغ السلام بعض التلاقي
وإذا ما مررت بالخيف فاشهد
أن قلبي إليه بالأشواق
وإذا ما سئلت عني فقل نضـ
ـو هوى ما أظنه اليوم باق
ضاع قلبي فانشده لي بين جمع
ومنى عند بعض تلك الحداق
وابك عني فطالما كنت من قبـ
ـل أعير الدموع للعشاق
وتذكرنا هذه الأبيات بقول عبد الرحمن الداخل:
أيها الراكب الميمم أرضي
اقر من بعضي السلام لبعضي
إن جسمي كما علمت بأرض
وفؤادي ومالكيه بأرض
قدر البين بيننا فافترقنا
وطوى البين عن جفوني غمضي
قد قضى الله بيننا بافتراق
فعسى باجتماعنا سوف يقضي
ومن الشعراءِ من يبكي في القرب والبعد، كما قال بعض الظرفاء:
وما في الأرض أشقى من محب
وإن وجد الهوى حلو المذاق
تراه باكيًا في كل حال
مخافة فرقة أو لاشتياق
فيبكي إن نَأَوْا شوقًا إليهم
ويبكي إن دنوا خوف الفراق
فتسخن عينه عند التنائي
وتسخن عينه عند التلاقي
وليس لنا إلا أن نذكر أمثال هذا الشاعر بما قاله الأخطل لعبد الملك بن مروان وقد سأله
كيف
تشرب الخمر، وأولها مر، وآخرها سكر؟ فقال: صدقت يا أمير المؤمنين! ولكن بين السكر والمرارة
لحظة دونها ملكك الطويل العريض!
وبين دموع التلاق، ودموع الفراق، لحظة دونها حياة الأبرار في جنات النعيم!
ومن الشعراءِ من يتوجع على عهده قبل الفراق، كقول الشريف:
هل عهدنا بعد التفرق راجع
أو غصننا بعد التسلب مورق
شوق أقام وأنت غير مقيمة
والشوق بالكلف المُعنَّى أعلق
ما كنت أحظى في الدنو فكيف بي
واليوم نحن مغرب ومشرق
وفي البيت الأخير حسرة تذيب لفائف القلوب.
وقد أجاد الأرجاني في وصف اليأس بعد الفراق، حين قال:
رحلوا: أمام الركب نشر عبيرهم
ووراءهم نفس المشوق الصادي
فكأن هذا من وراء ركابهم
حاد لها وكأن ذلك هادي
لله موقف ساعة يوم النوى
بمنى وأقمار الحدوج بواد
لما تبعت وللمشيع غاية
أظعانهم وقد امتلكن قيادي
اتبعتهم عيني وقلبي واقفًا
فوق الثنية والمطي غواد
كيف السبيل إلى التلاقي بعدما
ضرب الغيور عليه بالأسداد
والحي قد ركزوا الرماح بمنزل
فيه الظباءُ ربائب الآساد
وعد المنى بهم فقلت لصاحبي
كم دون ذلك من عدى وعواد
عهدي بهم وهم بوجرة جيرة
سقيت عهودهم بصوب عهاد
فاليوم من نفس النسيم إذا سرى
نبغي شفاء علائل الأكباد
ومن العشاق من يقف بالديار فيبكي لما صنعت بها أيدي الفراق حين نفرت عنها الظباء،
كسبط
ابن أسابذي حين يقول:
يا موقفًا بالبان لم تثمر لنا
غير الصبابة والأسى شجراته
هل نفرت لا نفرت غزلانه
أو صوحت لا صوحت باناته
عهدي به يلوي الديون قضاته
وتصيد ألباب الرجال مهاته
فاليوم لا جيرانه جيرانه
قدمًا ولا فتياته فتياته
يا حادي الأظعان في آثاركم
قلب تقطعه جوى حسراته
ولقد يرى ثبت الحصاة فما له
أمست تذوب على البعاد حصاته
١