شكوى الصبابة
نظرت ما قال الشعراء في الشكوى فإذا هم مختلفون: فمنهم من يشكو إلى من يعلم السر والنجوى،
ومن يقدر على تصريف الخواطر، وتقليب القلوب.
ألان لداود الحديد بقدرة
مليك على تيسير قلبك قادر
وهؤلاءِ أصدق الناس حبًّا وأحسنهم إيمانًا، وسيدهم أبو صخر الهزلي حين يقول:
بيد الذي شغف الفؤاد بكم
تفريج ما ألقى من الهم
فإنه جعل الهوى قدرًا، وجعل الأمر في تيسير قلب من يهوى وتذليله للذي خلق الحب، وأودع
الذل فيه. ولم أجد في هذا المعنى أوجع من قول قيس بن زريح:
إلى الله أشكو فقد لبنى كما شكا
إلى الله بعد الوالدين يتيم
يتيم جفاه الأقربون فدمعه
غزير وعهد الوالدين قديم
وإذا كان محالًا أن يجد المرءُ بعد أبويه من يعوله، ويحدب عليه، ويمنحه من العطف والحنان
ما كان جديرًا أن يفوز به لو عاش أبواه، فكذلك لا يجد قيس من بين النساءِ من تبره بر
لبنى،
وهذا وجه الحسن في هذين البيتين، اللذين يفيضان نارًا وحرقة. وقال ابن المعتز:
إلى الله أشكو الشوق لا إن لقيتها
يقل ولا إن بنت يخلقه الدهر
مقيم على الأحشاءِ قد قطعت به
فساعته يوم وليلته دهر
ولم يذكر الشاعر هنا من موجب الشكوى غير فرط حبه، وخلود وجده، وإنما يشكو المحب قسوة
الهجر، ومرارة الصدود. وقال معين الدين الخطيب في الشكوى من لوعته وحسن محبوبه:
أشكو إلى الله من نارين واحدة
في وجنتيه وأخرى منه في كبدي
ومن سقامين سقم قد أحل دمي
من الجفون وسقم حل في جسدي
وهذا شعر منتقد؛ فإنه إذا صح أن يشكو المحب إلى الله سقمه ووجده، أملًا في الراحة
من
بلاءِ الحب، فما الذي يريده بشكوى السقم في جفن محبوبه والنار في خديه؟ وقد أجاد أو قارب
في
قوله:
ومن نمومين دمعي حين أذكره
يذيع سري وواش منه للرصد
ومن ضعيفين صبري حين يهجرني
ووده، ويراه الناس طوع يدي
فإنه لا بأس من شكوى الواشي والود الضعيف!
ومن المحبين من يشكو إلى المعاهد والرسوم، وهو نوع من الوله، وصنف من الصبابة، تقر
به عين
المحب، وتطيب به نفس المشوق، كقول ابن المعتز:
أيا سدرة الوادي على المشرع العذب
سقاك حيًا حي الثرى ميت الجدب
كذبت الهوى إن لم أقف أشتكي الهوى
إليك وإن طال الطريق على صحبي
أصانع أطراف الدموع ومقلتي
موقرة بالدمع غربًا على غرب
وهل هي إلا حاجة قضيت لنا
ولوم تحملناه في طاعة الحب
تبدلت شيبًا بالشباب فإن تطر
شياطين لذاتي يقعن على قرب
ومنهم من يشكو إلى المسعد والرفيق، وهو أصل هذا الباب، ومنه هذا البيت السائر:
ولا بد من شكوى إلى ذي مروءَة
يواسيك أو يسليك أو يتوجع
ويعجبني في هذا المعنى قول البهاء زهير:
أين من يرحمني أشكو له
إنما الشكوى إلى من يرحم
أنا من قلبي ومنها آيس
لم يكن من مقلتيها يسلم
أيها السائل عن وجدي بها
إنه أعظم مما تزعم
ولقد حدثت عن شرح الهوى
أنت يا رب بحالي أعلم
طال ما ألقاه من نار الجوى
وحديثي لك يا من يفهم
عشق الناس ومثلي لم يكن
فاعلموا أني فيهم علم
سطرت قبلي أحاديث الهوى
وبمسك من حديثي تختم
وهذا شعر يشف عن كثير من سلامة الذوق، وخفة الروح، ولعلك لا تجد أظرف من قوله:
أين من يرحمني أشكو له
إنما الشكوى إلى من يرحم
فإنه خير ما قيل في معناه … ومن المغرمين من يشكو إلى حبيبه وهو أوجب لرحمته، وأدعى
إلى
إنصافه، ومنه قول الطغرائي:
لعمرك ما يرجى شفائي والهوى
له بين جسمي والعظام دبيب
أجلك أن أشكو إليك وأنطوي
على كمدي إن الهوى لعجيب
وآمل برءًا من هوى خامر الحشا
وكيف بداءٍ لا يراه طبيب
نصيبك من قلبي كما قد عهدته
وما لي بحمد الله منك نصيب
وما أدعي إلا اكتفاءً بنظرة
إليك ودعوى العاشقين ضروب
وما بحت بالسر الذي كان بيننا
ولكنما لحظ المحب مريب
وقوله «نصيبك من قلبي كما قد عهدته» مأخوذ من قول ابن الأحنف:
إليك أشكو رب ما حل بي
من صد هذا التائه المعجب
صب بعصياني ولو قال لي
لا تشرب البارد لم أشرب
إن قال لم يفعل وإن سيل لم
يبذل وإن عوتب لم يعتب
وقوله «وما أدعي إلا اكتفاءً بنظرة» مأخوذ من قول الشريف:
عشقت وما بي يعلم الله حاجة
سوى نظري والعاشقون ضروب
ومما حسنت معانيه وصحت تقاسيمه — في الشكوى إلى المحبوب — قول بعض الأعراب:
شكوت فقالت كل هذا تبرمًا
بحبي أراح الله قلبك من حبي
فلما كتمت الحب قالت لشد ما
صبرت وما هذا بفعل شجي القلب
وأدنو فتقصيني فأبعد طالبًا
رضاها فتعتد التباعد من ذنبي
فشكواي تؤذيها وصبري يسوءها
وتجزع من بعدي وتنفر من قربي
فيا قوم هل من حيلة تعرفونها
أشيروا بها واستوجبوا الشكر من ربي
وهذا شعر الطبع والسليقة، والموفقون إلى مثله قليل.
وقد أجاد في هذا المعنى من شعراءِ العصر حافظ بك إبراهيم حين قال:
كم تحت أذيال الظلام متيم
دامي الفؤاد وليله لا يعلم
ما أنت في دنياك أول عاشق
راميه لا يحنو ولا يترحم
أهرمتني يا ليل في شرخ الصبا
كم فيك ساعات تشيب وتهرم
لا أنت تقصر لي ولا أنا مقصر
أتعبتني وتعبت، هل من يحكم
لله موقفنا وقد ناجيتها
بعظيم ما يخفي الفؤاد ويكتم
قالت من الشاكي تسائل سربها
عني ومن هذا الذي يتظلم
فأجبنها وعجبن كيف تجاهلت
هو ذلك المتوجع المتألم
أنا من عرفت ومن جهلت ومن له
لولا عيونك حجة لا تفحم
أسلمت نفسي للهوى وأظنها
مما يجشمها الهوى لا تسلم
وأتيت يحدوني الرجاء ومن أتى
متحرمًا بفنائكم لا يحرم
أشكو لذات الخال ما صنعت بنا
تلك العيون وما جناه المعصم
لا السهم يرفق بالجريح ولا الهوى
يبقي عليه ولا الصبابة ترحم
لو تنظرين إليه في جوف الدجى
متململًا من هول ما يتجشم
يمشي إلى كنف الفراش محاذرًا
وجلًا يؤخر رجله ويقدم
يرمي الفراش بناظريه وينثني
جزعًا ويقدم بعد ذاك ويحجم
فكأنه واليأس ينسف نفسه
للقتل فوق فراشه يتقدم
رشقت به في كل جنب مدية
وانساب فيه بكل ركن أرقم
فكأنه في هوله وسعيره
واد قد اطلعت عليه جهنم
هذا وحقك بعض ما كابدته
من ناظريك وما كتمتك أعظم
قالت أهذا أنت ويحك فاتئد
حتام تنجد في الغرام وتتهم
إنا سمعنا عنك ما قد رابنا
وأطال فيك وفي هواك اللوم
أصغت إلى قول الوشاة فأسرفت
في هجرها وجنت علي وأجرموا
حتى إذا يئس الطبيب وجاءها
أني تلفت تندمت وتندموا
وأتت تعود مريضها لا بل أتت
مني تشيع راحلًا لو تعلم
وفي هذه القصيدة صورة شعرية بديعة، تمثل العاشق، وقد طال عليه الليل، وهجر جفنيه المنام.
وهي غاية في حسن القصص، وسحر البيان.
ولنذكر الشكوى إلى ساقي الراح في قول ابن المعتز:
أيها الساقي إليك المشتكى
قد دعوناك وإن لم تسمع
ونديم همت في غرته
وبشرب الراح من راحته
كلما استيقظ من سكرته
جذب الزق إليه واتكا
وسقاني أربعًا في أربع
ما لعيني عشيت بالنظر
أنكرت بعدك ضوء القمر
وإذا ما شئت فاسمع خبري
عشيت عيناي من طول البكا
وبكى بعضي على بعضي معي
غصن بان مال من حيث التوى
مات من يهواه من فرط الجوى
خفق الأحشاءِ موهون القوى
كلما فكر في البين بكى
ويحه يبكي لما لم يقع!
ليس لي صبر ولا لي جلد
يا لقومي عذلوا واجتهدوا
أنكروا شكواي مما أجد
مثل حالي حقه أن يشتكا
كمد اليأس وذل الطمع
كبد حرى ودمع يكف
أصرف الدمع فلا ينصرف
أيها المعرض عما أصف
قد نما حبي بقلبي وزكا
لا تقل في الحب إني مدعي
وفي هذه الموشحة شكوى أليمة، تهم بمثلها النفس الشجية، من حين إلى حين.
وتعجبني شكوى ابن الرومي في قوله:
ظبي يصيد ولا يصاد محاذر
نَبْلَ الهوى وحبائل الإيناس
غِرٌّ شموس إن أحس بريبة
أعجب بجامع غرة وشماس
يسبي القلوب بمقلة مكحولة
بفتور غنج لا فتور نعاس
أيضيمني خنث الشمائل لو نضا
عنه غلالته حساه الحاسي؟
ومن العجائب أن تحل ظلامة
بفتى أناس من فتاة أناس
ومن المعذبين من يبث شكواه من دهره وإخوانه إلى صديق أقصته في بره الليالي. ومن شعراء
العصر من قارب الإجادة في هذا المعنى، كصاحب البدائع حيث يقول:
٢
أنت الذي علمتني
يا سيدي بر الصديق
وتركتني في فتية
ما فيهم بر رفيق
لم ألق بعدك منهم
إلا الجفاءَ أو العقوق
حتى كأني لم أبت
منهم على عهد وثيق
وكأنهم لم يبصروا
في خلتي الحر الصدوق
فنسوا هواي ولم يفق
من ودهم قلبي المشوق
ونسوا طريف حديثنا
عند الصبوح أو الغبوق
ليت الهوى ما قادني
يومًا إلى ذاك الطريق
أو ليتني لم أنخدع
جهلًا بهاتيك البروق
بل ليتني بعد الذي
عانيت من صبحي أفيق
•••
مولاي لو أبصرتني
لفزعت من دمعي الطليق
وشجاك جسمي ناحلًا
وكأنه الطيف الطروق
أشكو إليك وإنما
يشكو المضيم إلى الشفيق
فارحم فديتك مهجة
أودى بها الحزن العميق
حزن يقطع في الحشا
فكأنه غدر الصديق
•••
يا ويح قلبي لم يزل
يهفو به الروح الخفوق
وتقوده الذكرى إلى
عهد الهوى الغض الرقيق
أيام نمرح في الصبا
في ذلك العيش الأنيق
أيام نسقي في الهوى
والود كأسًا من رحيق
تلك الليالي لم تدع
من بعدها حسنًا يروق
كلا ولا خلت لنا
إلا الزفير أو الشهيق