إنجلز الشيوعي
كانت أولى زيارات إنجلز إلى إنجلترا عبارة عن رحلة قصيرة في صيف عام ١٨٣٨، وخلد ذكرى تلك الرحلة بعد عامَين (عندما بلغ إنجلز عامه العشرين) في بعض التعليقات الرومانسية إلى حدٍّ يحبس الأنفاس لكنها كانت مميزة أيضًا، واصفًا المناظر الطبيعية فيما بين لندن وليفربول قائلًا: «إذا كانت ثمة أرض يجب أن يعبرها المرء عبر السكك الحديدية، فهذه الأرض هي إنجلترا» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني). وفي رحلته التالية لإنجلترا في أواخر عام ١٨٤٢، صاحَبَ مواهبَ إنجلز في السرد الوقائعي العياني وعيٌ سياسي زاد عمقَه المعاركُ التي شهدها في برلين؛ فبعد أن رافَقَ في الحرب أشخاصًا يتسمون بالدوجماتية والظلامية والرجعية والتشدُّد، استخدَمَ إنجلز العقلانيةَ الثورية الجديدة لتناوُل الحياة الإنجليزية؛ وفي هذه المرة، كانت تحت إمرته إحدى صحف كولونيا الراديكالية، وشرع في العمل على الفور.
ومن لندن هاجَمَ «الطبقات الحاكمة، سواء أكانت الطبقة الوسطى أم الطبقة الأرستقراطية، سواء أكانوا من حزب الويج أم من حزب التوري»؛ بسبب عمى بصيرتهم وتعنُّتهم؛ حيث كانوا دائمًا معارضين لنظام الاقتراع العام؛ لأنه في هذه الحالة من الممكن أن يفوقهم في عدد الأصوات في مجلس العموم أشخاصٌ من غير ذوي الأملاك. وكانت الحركة الميثاقية، وهي حركة شعبية تسعى للإصلاح الليبرالي، قد «بدأت تتطوَّر بهدوء بمعدلات هائلة»، وكتب إنجلز مهدِّدًا بكارثةٍ تنتظر «حزبَيِ الويج والتوري الإنجليزِيَّين» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
أثناء وجود إنجلز في برلين في الفترة ما بين عامَي ١٨٤١ و١٨٤٢، عكس تطوُّرُه السياسي التطوُّرَ الذي مر به الهيجليون الشباب؛ فبعد تخفيف الرقابة على الصحافة، تحوَّلَتْ آراؤهم السياسية من الدفاع عن الحالة العقلانية المتسقة على نحو أو آخَر مع الرؤية الهيجلية، إلى النقد الصريح لهيجل، ورَفْض ليبرالية الطبقة الوسطى، ثم توجَّهَتْ للدفاع عن الديمقراطية والنظام الجمهوري والإصلاح الاجتماعي الذي يصبُّ في صالح الفقراء. واستخدَمَ كثير من الكُتَّاب في ذلك الوقت «الاشتراكية» و«الشيوعية» على نحو متبادل، غير أن الشيوعيين كانوا يُعتبَرون أكثرَ راديكاليةً من الاشتراكيين، وكان من أوائل الشيوعيين الألمان شخصٌ يُدعَى موشيه هس، ناقَشَ الشيوعيةَ على نحوٍ مطول مع إنجلز عندما تقابَلَا في كولونيا، ونقل له مذهبًا متفائِلًا يقوم على الإلحاد والثورة الأخلاقية. وفي مقالته التالية، لم يتناول إنجلز تقريبًا أيَّ موضوع سوى إعلانِ أنه أصبح شيوعيًّا.
يجب ألَّا يفاجئنا أن كاتب «رسائل من فوبرتال» قد وجَدَ الشيوعية أمرًا مناسِبًا له، إلا أن الوضع في كولونيا كان يحتاج لمقالته التي نُشِرت في التاسع أو العاشر من ديسمبر ١٨٤٢. ففي مجموعة التحرير التي كان إنجلز يزورها مرتين قبل السفر إلى إنجلترا، كانت تتمُّ مناقشةُ نظريات عن الثورة الاجتماعية الشاملة والملكية المشتركة وتحرير الإنسان، وقد أثار إنجلز إلى حد كبير الاهتمامَ الموجَّه إلى الصناعة الحديثة وفقر الطبقة العاملة والإلحاد في سياق الثورة الاجتماعية والسياسية، وكان هذا الشكل من الشيوعية على وجه الخصوص — الذي لم يكن مذهبًا واضِحَ المعالم بأي حال من الأحوال — هو المذهب الذي اختار إنجلز تطويرَه. وربما لم يكن «فريدريك أوسفالد» ليتوصَّل إلى تلك الاستنتاجات بنفسه، ولم تكن بالتأكيد هي الطريقة الوحيدة للمضي قدمًا بعد تعليقات فوبرتال، إلا أن إنجلز كان مقتنعًا بها، واستخدَمَ مهاراته التحليلية والصحفية لتقديم الدعم وإضفاء الحيوية على الأفكار المجردة التي وجدها مُقنِعةً ومثيرةً للغاية.
قدَّمَتْ مقالةُ «الأزمات الداخلية» تناوُلًا يتسم بالخصوصية والمعقولية الهائلتين، وكانت بالفعل تمهيدًا نظريًّا لرائعة إنجلز «حالة الطبقة العاملة في إنجلترا» التي نشرها عام ١٨٤٥؛ وفي هذه المقالة تساءَلَ إنجلز بجرأة عمَّا إذا كان نشوبُ ثورة في إنجلترا أمرًا ممكنًا أم محتملًا. وفي هذه المقالة قال إنجلز: «اطرح هذا السؤالَ على أي رجل إنجليزي»، وسوف يقدِّم لك «ألفَ سبب وجيه يُثبِت أنه لا يمكن أن يوجد أيُّ احتمال لحدوث ثورة على الإطلاق.» على سبيل المثال ثروة إنجلترا وصناعاتها، ومؤسساتها، ودستورها المرن، وحقيقة أن أي إخلال بالنظام العام لن يؤدِّي إلا إلى البطالة والمجاعة. إلا أنه عند تبنِّي الرجل الإنجليزي هذا الرأيَ، فإنه «ينسى الأساس بسبب مظهر السطح.» وبعد ذلك قدَّمَ إنجلز تحليلًا اقتصاديًّا لإنجلترا الصناعية؛ فقال إنها دولة تعتمد على التجارة، ومُجبَرة باستمرار على زيادة الناتج الصناعي، وأوضح إنجلز أن تعريفات الحماية الجمركية قد رفعت من سعر البضائع الإنجليزية وكذلك مستوى الأجور في إنجلترا، وأن التجارة الحرة سوف تؤدِّي إلى تدفُّق البضائع المستوردة إلى حدٍّ كارثي، فضلًا عن تدمير الصناعة الإنجليزية، وأشار إلى أن الأسواق الإنجليزية قد بدأت تسقط أمام الأسواق الألمانية والفرنسية؛ وهكذا انكشَفَ فلسفيًّا من خلال ملاحظته المباشرة «التناقُضُ الكامن في مفهوم الدولة الصناعية». وبيَّنَ إنجلز أن أقل انخفاض في التجارة سوف يحرم جزءًا كبيرًا من الطبقة العاملة من قوتها؛ فحدوث أزمة تجارية واسعة النطاق سوف يترك طبقةً كاملةً بلا أي شيء على الإطلاق، واستطرد قائلًا إن نصف الإنجليز تقريبًا ينتمون لطبقة «غير ذوي الأملاك، المعدمين تمامًا، وهي طبقة تعيش على حد الكفاف، ويتضاعف عددها سريعًا»، وأردف قائلًا إن التحالف الذي تمَّ مؤخرًا بين مجموعة غير منظمة من العمال المُضرِبين وأعضاء الحركة الميثاقية في أحداث شغب عام ١٨٤٢، قام على وَهْمٍ هو القيام بالثورة من خلال وسائل مشروعة. وقال إنجلز دون أن يسوق أيَّ دليل إن «المحرومين» قد اكتسبوا شيئًا مفيدًا؛ أَلَا وهو إدراك أن «القضاء القسري على الظروف القاسية الحالية» هو وحده الذي يمكنه تحسين ظروفهم. وعلى الرغم من أن احترام القانون كان لا يزال يحجم هؤلاء العمال عن إحداث أزمة كبيرة، فإنهم لن يخفقوا في إحداثها إذا أرادوا ذلك، وسيحدث هذا عندما يصبح خوفُهم من الجوع أكبرَ من خوفهم من القانون. إن هذه الثورة «حتمية»، لكن المصالح، وليست المبادئ الخالصة، هي ما ستجعل الثورة تتحقق. لا يمكن للمبادئ أن تتطور إلا من خلال المصالح، وستكون الثورة اجتماعية وليست سياسية خالصة (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
ومن مانشستر حيث كانت عائلة إنجلز شريكة على مدار بضع سنوات في مصنع لغزل القطن، فإنه واصَلَ تحليلَه للطبقة العاملة أو طبقة البروليتاريا من خلال الملاحظة المباشِرة، وعلى الرغم من أن العمال الإنجليز كانوا أفضل حالًا عند توظيفهم من العمال الفرنسيين أو الألمان، فإنهم كانوا يعانون من حالة فقر شديد عند حدوث «أقل قدرٍ من التذبذُب في التجارة.» وأوضَحَ إنجلز أن المدَّخرات، وكذلك الصناديق التعاونية الخاصة بالعمَّال تنضب عندما تتفشَّى البطالة، وزعم أن هذا ما يحدث في جلاسجو، قائلًا: «عندما تتوسَّع الصناعة الإنجليزية، فلا بد دائمًا أن تعاني بعض المناطق.» وعلَّقَ قائلًا إن الدولة لا يهمها ما إذا كان الجوع مرًّا أم حلوًا؛ فهي تلقي بهؤلاء الناس في غياهب السجون، أو ترسلهم إلى مستعمرات عقابية، وعندما تطلق سراحهم، تكون الدولة «قد شعرت بالارتياح لأنها حوَّلَتِ الأشخاصَ الذين هم بلا عمل إلى أشخاص بلا أخلاق.» وضرب إنجلز مثلًا بعمال مانشستر الذين عندما يتم توظيفهم يتحمَّلون يومَ عملٍ طوله ١٢ ساعة، وعندما لا يتم توظيفهم، «مَن يستطيع أن يلومهم إذا لجأ الرجالُ إلى النهب أو السطو، ولجأت النساء إلى السرقة والدعارة؟» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
كان لرائعة إنجلز التي نشرها عام ١٨٤٥ ثلاثة أعمال تمهيدية أخرى، وهي مقالات كُتِبت ونُشِرت في الفترة ما بين عامَي ١٨٤٣ و١٨٤٤، متناوِلةً موضوعًا أوسع نطاقًا؛ أَلَا وهو: التاريخ الاجتماعي لإنجلترا. ناقش إنجلز كتابَ توماس كارلايل «الماضي والحاضر» الذي كان قد نُشِر مؤخرًا، من خلال تقديم هذا المشروع الكبير ومدح مؤلِّفه على «وجهة نظره الإنسانية»، لكنه بالغ في انتقاد «آثار رومانسية حزب التوري»، وكذلك عدم معرفته بالفلسفة الألمانية؛ ومن ثَمَّ فإن كل آرائه كانت «بسيطة وحدسية». وقال إنجلز إن شكاوى كارلايل من فراغ وخواء ذلك العصر، وهجومه على النفاق والكذب، ونقده للمنافسة واقتصاد العرض والطلب؛ كانت «صحيحة»، وعاب عليه أنه بالرغم من ذلك لم يتعمَّقْ ليصل إلى سبب تلك الظواهر، ومن ثَمَّ لم يكتشف الحلَّ؛ ونتيجةً لذلك «لم يوجد أدنى ذِكْر للاشتراكيين الإنجليز» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثالث).
إن تلك الثورة التي حدثت في الصناعة البريطانية هي أساس كل جانب من جوانب الحياة الإنجليزية المعاصرة، وهي القوة المحركة وراء كل أشكال التطور الاجتماعي، وكانت أولى تبعاتها، كما أوضحنا بالفعل، أن وصلَتِ المصلحةُ الذاتية إلى مستوى السيطرة على الإنسان. لقد استولت المصلحة الذاتية على القوى الصناعية المكونة حديثًا واستغلتها لأغراضها الخاصة، وتلك القوى التي تخص الإنسان أصبحت حكرًا على قلةٍ من الرأسماليين الأثرياء ووسيلةً لاستعباد الأغلبية. واستحوذت التجارة على الصناعة، وهكذا أصبحت التجارة ذات سلطة مطلقة، وأصبحت الرابط بين بني البشر، واختزلت كل العلاقات الشخصية والقومية إلى علاقات تجارية، وهذا يؤدِّي إلى الأمر نفسه المتمثِّل في سيادة الملكية والأشياء على العالم (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثالث).
يرى الوسطيون أن من أهم مميزات الدستور الإنجليزي تطوُّره «تاريخيًّا»، وهذا يعني من وجهة النظر الألمانية أن الأساس القديم الذي شكَّلته ثورة عام ١٦٨٨ تم الحفاظ عليه، وأن هذا الأساس، كما يطلقون عليه، تمَّ البناء عليه إلى حد كبير، وسنرى فيما يلي الخصائصَ التي اكتسبها الدستور الإنجليزي بناءً على ذلك؛ لكن يكفي الآن عقْدُ مقارَنةٍ بسيطة بين الرجل الإنجليزي عام ١٦٨٨ والرجل الإنجليزي عام ١٨٤٤، لإثبات أن وجود أساس دستوري متطابِق لدى كلَيْهما إنما هو عبث ومحال (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثالث).
وحيث إن إنجلز قد وعد بالالتزام «بالحقائق التجريبية» بدلًا من الإشارة إلى خرافات الفقيه القانوني بلاكستون، أو ميثاق الحريات العظيم المسمَّى بالماجنا كارتا أو قانون الإصلاح لعام ١٩٣٢، فقد استعرض عناصر الحكم الملكي والأرستقراطي والديمقراطي. واختتم إنجلز استعراضه قائلًا إن الملك ومجلس اللوردات فقَدَا أهميتهما، وإن مجلس العموم كان يتمتَّع بسلطة مطلقة، وكتب قائلًا إن السؤال الحقيقي هو: مَن يحكم فعليًّا في إنجلترا؟ وكان جوابه هو «أصحاب الأملاك». فالطبقة الوسطى كانت مسيطرة، والفقراء ليس لديهم حقوق؛ فالدستور يلفظهم والقانون يسيء معاملتهم، واستطرد قائلًا إن: «صراع الديمقراطية مع الأرستقراطية في إنجلترا» كان «صراع الفقراء ضد الأغنياء» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثالث).
إن منع الاستعباد الإقطاعي جعل «الدفع النقدي هو العلاقة الوحيدة بين البشر»، ونتيجةً لذلك تغلَّبَتِ الملكية، ذلك المبدأ الطبيعي المفتقِر إلى الروح، وطغت على المبدأ البشري والروحي في تلك المواجهة، وفي النهاية، وإكمالًا لهذا الاغتراب، أصبَحَ المال — التجريد المغترب الفارغ للملكية — سيدًا للعالم، ولم يَعُدِ الإنسان عبدًا لغيره من الناس، بل أصبح عبدًا «للأشياء»؛ واكتمل انحراف الوضع الإنساني … (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثالث).
ووفقًا لإنجلز، فإنه قد ألَّفَ كتابه «حالة الطبقة العاملة في إنجلترا» اعتمادًا «على ملاحظة شخصية ومصادر موثوقة»، وتحدَّى «الطبقة البرجوازية الإنجليزية» أن تثبت خطأه «ولو في حالة واحدة غير مهمة»، وأهدى هذا العمل «إلى الطبقات العاملة في بريطانيا العظمى»، وكان غرضه من تأليف الكتاب سياسيًّا كما أعلن عن ذلك بوضوح. وقال إنجلز إن الألمان يحتاجون لمعرفة الحقائق عن إنجلترا؛ فعلى الرغم من أن الظروف في ألمانيا ليست على غرار «النمط التقليدي» الموجود في إنجلترا، فإن كلا البلدين لديه، في الأساس، النظامُ الاجتماعي نفسه؛ فأسباب شقاء وقهر طبقة البروليتاريا في إنجلترا كانت حاضرةً في ألمانيا، وستكون النتائج متماثِلةً في نهاية المطاف. ومن هذا المنطلق، فإن عمليات الاستقصاء الرسمية التي تناولت حياة الطبقة العاملة في إنجلترا — والتي كانت المصدر الرئيسي الذي اعتمد عليه إنجلز في الحصول على المعلومات الإحصائية — كانت ضروريةً للغاية «للاشتراكية والشيوعية الألمانية»، تلك الحركة التي سعى لتناولها على نحو أكبر في ذلك الكتاب المكتوب باللغة الألمانية، وقد جُمعت المادة البحثية للكتاب في إنجلترا، وكُتب في أواخر عام ١٨٤٤ وأوائل عام ١٨٤٥، ونُشر على الفور تقريبًا (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الرابع). وجذب الكتاب انتباهَ كثيرٍ من النقاد وأُعِيدت طباعته عام ١٨٤٨، وظهرت طبعة ألمانية أخرى منه عام ١٨٩٢ في أواخر حياة إنجلز، كما ظهرت ترجمة إنجليزية للكتاب ونُشِرت في نيويورك عام ١٨٨٧. وكان إنجلز في الخامسة والعشرين من عمره عندما نُشِر له أول أعماله المهمة، وحاز على انتباه الكثير من القرَّاء والنقاد.
كان كتاب إنجلز مجحفًا ومتحيِّزًا سياسيًّا، وكان موقفه الأخلاقي والفلسفي واضحًا على مدار الكتاب، وقدَّمَ سردًا لاذعًا تمامًا عن «طبقة الملاك» ودورها في النظام الاقتصادي القائم على المنافسة، وأشار إلى قضيته العامة المرتبطة بالطبقة العاملة الإنجليزية — التي يصفها بأنها «قضية الإنسانية» — وتوقَّعَ أن يثور غضب تلك الطبقة في ثورةٍ ستكون الثورة الفرنسية وعهد الإرهاب الذي أعقَبَها بمنزلة شيء ضئيل لا يُذكَر إذا ما قُورِنَا بها. ومن ثم، فمن غير المفاجئ أن إنجلز استخدَمَ مصادرَ غايةً في الانتقائية؛ فلقد اختار تقارير مهيجة للمشاعر أحيانًا من صحف اشتراكية، وكانت هذه التقارير تجسد أسوأ حالات الفقر والمهانة والمعاناة. ومن صحيفة «ذا تايمز» وصحيفة «ذا نورذرن ستار»، اقتبس إنجلز ثلاث قصص مروعة للغاية، كانت إحدى هذه القصص تدور حول امرأة تُدعَى آن جالواي في الخامسة والأربعين من عمرها، تسكن في ٣ وايت ليون كورت، شارع بيرمنزي، لندن، مع زوجها وابنها البالغ من العمر تسع عشرة سنة، في غرفة صغيرة لا يوجد بها سرير أو أي نوع من الأثاث، وقال الطبيب الشرعي لمقاطعة سري إن تلك المرأة «ماتت جوعًا وتشوَّهت جثتها من عضات الهوام.» ويسهب إنجلز فيقول: «جزء من أرضية تلك الغرفة كان مقتلعًا، وكانت الحفرة الناتجة تستخدمها الأسرة باعتبارها مرحاضًا.»
عندما ذهب رجل الشرطة إليها، وجدها مع ستة من أبنائها مكوَّمين حرفيًّا في غرفة خلفية صغيرة، خَلَتْ من قطع الأثاث باستثناء كرسيين من القشِّ قاعدتاهما متآكلتان، وطاولة صغيرة اثنتان من أرجلها مكسورتان، وفنجان مكسور، وطبق صغير. كاد الموقد يخلو من النار، وفي أحد الأركان كان يوجد قدر من الخِرَق البالية الكافية لملء مئزر حريمي، وكانت تلك الخِرَق تُستخدَم باعتبارها سريرًا للأسرة … وقد رهنَتْ سريرَها لمورِّد الطعام لتحصل على الغذاء.
أما الحالة الثالثة التي كانت تخصُّ أرملةً تكسب قوتها من خلال تنظيف المنازل، فقد كانت مشابهة للحالة السابقة؛ فتلك المرأة وابنتها المريضة البالغة من العمر ستًّا وعشرين سنة، كانَتَا تسكنان غرفة خلفية لا تتجاوز مساحتها مساحة الخِزانة، وقد باعَتَا أو رهنتَا كلَّ شيء كان بحوزتهما.
وفي دفاع إنجلز عن عمله، لم يستطع سوى أن يعلِّق بأنه اقتبَسَ عن عمد الحالات الأكثر ترويعًا، فقال: «أعلم جيدًا أن ثمة عشرة أشخاص أفضل حالًا إلى حدٍّ ما من هؤلاء، في حين أنه يوجد شخص مطحون تحت أقدام المجتمع» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الرابع).
لكن عندما أخذ إنجلز قرَّاءَه في «جولات» حول مانشستر، تراجَعَ ذِكْر القصص المنقولة وطغى على المشهد التاريخ والجغرافيا والجانب الاجتماعي؛ فقد أدركَتْ ملاحظاتُ إنجلز التعقيدَ في حياة سكان مانشستر — من ناحية الإسكان والصناعة والمواصلات والصحة العامة — وتفاوت الظروف بين سكان المدينة. وكان إنجلز، بطبيعة الحال، رجلًا نبيلًا يستطيع ارتيادَ مجالس الأثرياء، لكنه كان شيوعيًّا يرغب في أكثر من «معرفة «مجردة» بالموضوع فحسب»؛ ولذلك ذهب مع رفاق من الطبقة العاملة وارتاد الأحياء الفقيرة في المدينة (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الرابع)، وكان أحد هؤلاء الرفاق امرأة تُدعَى ماري بيرنز، وهي عاملة مصنع أيرلندية، وأصبحت عشيقتَه وظلَّتْ كذلك حتى وفاتها عام ١٨٦٣.
أعلم جيدًا أن هذا التصميم المنافق شائع إلى حدٍّ ما في كل المدن الكبرى، وأعلم أيضًا أن تجار التجزئة مُجبَرون بحكم طبيعة عملهم على الاستحواذ على الطرق الرئيسية الكبيرة، وأعلم أنه توجد مبانٍ جيدة أكثر من المباني السيئة في تلك الشوارع في كل مكان، وأن قيمة الأرض تكون أعلى كلما كانت قريبة من تلك الشوارع مقارَنةً بقيمتها في الأحياء البعيدة، لكنني في الوقت نفسه لم أَرَ قطُّ حجبًا ممنهجًا للطبقة العاملة عن الطرق الرئيسية، ولم أَرَ إخفاءً بارزًا لكلِّ شيء قد يزعج أعين الطبقة البرجوازية أو يثير أعصابها، كما رأيت في مانشستر (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الرابع).
من المستحيل أخذ أي انطباع من التكدُّس العشوائي للمنازل بطريقةٍ تتحدَّى كلَّ التخطيطات المنطقية، أو من تشابكها على نحوٍ يجعلها حرفيًّا مكدَّسةً بعضها فوق بعض. وليست المباني الصامدة منذ أيام مانشستر القديمة هي السبب في ذلك؛ فهذه الفوضى بلغت ذروتها مؤخرًا عندما امتلأت عن آخِرها كلُّ قطعة أرض متبقية منذ أيام طريقة البناء القديمة، وأصبحت مكتظةً بالمباني لدرجة أنه لم يَعُدْ هناك موطئ قدم من الأرض متاح لشغله (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الرابع).
وصف إنجلز المراحيض القذرة، والأنهار الملوثة، والقمامة وزرائب الخنازير، بالإضافة إلى «الأكواخ ذات الغرفة الواحدة» وسكانها؛ لقد ضُرِب بكلِّ قواعد النظافة والصحة عُرض الحائط عند تأسيس هذه المنطقة. وعلى الرغم من قِدَم تلك المنطقة، فإن كل ما يثير الرعبَ والاستياء فيها كان أصله يعود لوقت قريب في عهد الصناعة (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الرابع).
وماذا عن مانشستر الجديدة؟ كانت الصدفة البحتة هي ما حدَّد طريقة توزيع المنازل في مانشستر القديمة، وقد أُطلق على المساحات الموجودة بين المنازل اسم ساحات «لعدم وجود اسم مناسب أكثر»، إلا أن تصميم مساكن مانشستر الجديدة المبنية بحيث تتشارك الجدران الخلفية أسفر عن سوء التهوية. وقدَّمَ إنجلز تصميمين، كما لو كانت المنازل مصوَّرة من الأعلى، ليُظهِر الطريقتين المستخدمتين في تشييد «أكواخ» العمال، ودائمًا كانت تلك المنازل مبنيةً بأعداد كبيرة بطول الشوارع والحارات الخلفية التي تكاد تكون غير مرئية. ورأى إنجلز أن أسلوب تشييد المباني الباحث عن الربح في المقام الأول، وكذلك أسلوب إيجارها، تضافَرَا حتى في طريقة البناء بالطوب؛ فقد استخدموا صفوفَ طوب متراصة كي يصنعوا جدرانًا خارجية ضعيفة ورخيصة التكلفة (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الرابع).
واتفق إنجلز مع المحقِّقين الأوائل الذين عنوا بدراسة حالة الطبقة العاملة، في الخلوص إلى أن «العمال في مانشستر وفي المناطق المحيطة يعيشون كلهم تقريبًا في أكواخ قَذِرة بائسة ورطبة»، حيث «لا تتوافر أي نظافة ولا مرافق؛ ومن ثَمَّ فالحياة الأسرية فيها غير ممكنة»؛ فمثل هذه المساكن «لا يمكن أن يشعر فيها بالارتياح والانتماء إلا جنسٌ من البشر معتلٌّ جسمانيًّا، مسلوبُ الحقوق الإنسانية، مذلول، متدنٍّ أخلاقيًّا وجسمانيًّا إلى مستوى الحيوانات» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الرابع).
استعرض إنجلز الحالة البائسة للطبقة العاملة فيما يتعلَّق بالملبس والطعام وتدخين السجائر والصحة والعلاج والأخلاق وظروف العمل لكلٍّ من الكبار والصغار، ورفض قوانين العمل في المصانع واصفًا إياها بأنها غير مناسِبة ومُطبَّقة على نحو سيئ. وبعد ذلك انتقل بتحليله إلى مستوًى أكثر عموميةً، وإلى استنتاجات تميل إلى التعميم على نحو أكبر.
أضِفْ إلى هذا البؤس تقلُّبات الدورة الاقتصادية، الناجمة عن عدم التحكم في عمليتي الإنتاج والتوزيع، اللتين لم تسعيا مباشرة «لتوفير الاحتياجات، وإنما للربح، في ظل نظام يعمل فيه الجميع من أجل مصلحته وكي يحقق لنفسه الثراء.» وكان هذا النظام غيرَ متكافئ وغير مُنصِف في نتائجه؛ «لذلك كان البرجوازي يحتاج بالتأكيد إلى عمال، في واقع الأمر ليس من أجل كسب قوته على نحو مباشر؛ فهو عند الحاجة بإمكانه إنفاق رأس ماله، ولكن باعتبارهم وسيلةً للربح، تمامًا مثلما نحتاج نحن لسلعة تجارية أو دابة نمتطيها» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الرابع).
وهكذا، يبدو أن حركة المقاومة العمالية تنقسم إلى قسمين؛ أَلَا وهما: الميثاقيون والاشتراكيون. أما الميثاقيون فهم الأكثر رجعيةً من الناحية النظرية، والأقل تقدُّمًا، لكنهم ينتمون بالأساس للطبقة العاملة؛ ولذلك فهم ممثلون لهذه الطبقة. وأما الاشتراكيون فهم أفضل من حيث نفاذ البصيرة، ويقدِّمون حلولًا عملية للمشاكل، لكنهم منبثقون في الأصل عن الطبقة البرجوازية، ولهذا السبب فإنهم غير قادرين على الاندماج الكامل مع الطبقة العاملة. إن اتحاد الاشتراكية مع الحركة الميثاقية، أي إعادة إنتاج الشيوعية الفرنسية بطريقة إنجليزية، سيكون هو الخطوة التالية، وتلك الخطوة قد بدأت بالفعل. وفقط في ذلك الوقت، وبعد تحقُّق ذلك الأمر، ستكون الطبقةُ العاملة هي القائد المفكِّر الحقيقي لإنجلترا؛ وهكذا ستبدأ عملية التنمية السياسية والاجتماعية، التي ستدعم هذا الاتحادَ الجديد، وهذا التحوُّلَ الجديد في الحركة الميثاقية (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الرابع).
ومن خلال الأدلة التي اختارها — لأنه اعتقد أنها الأكثر أهميةً — توقَّعَ إنجلز أن العمال سوف يدركون بمزيد من الوضوح كيف تؤثِّر المنافسة عليهم؛ فلقد رأوا بوضوح أكبر من الطبقة البرجوازية أن المنافسة بين الرأسماليين تسبِّب أزماتٍ تجاريةً، «وأن هذا النوع من المنافسة أيضًا لا بد من وضع حد له» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الرابع).
لم يكن هدف إنجلز هو تقديم أدلة مناقضة للقضية التي كان يروِّج لها؛ لأن سرده للموقف لم يكن الغرض منه استعراضًا فقط للظروف، بل كان يهدف إلى المساعدة في إحداث تطورات معينة في المجتمع وإحباط أخرى. وعلى الرغم من اعترافه بأن عمله كان متحيِّزًا على نحو واضح لما اعتبره مصالح الطبقة العاملة، فإن النقاد المعاصرين لا بد أن يكونوا حَذِرين قبل رفض هذا العمل لعدم التزامه الموضوعيةَ والحياديةَ وعدم التحيُّز. لكن كيف من المفترض أن يبدو السرد الموضوعي للبؤس؟ وهل يجب أن يكون المرء حياديًّا عند التحدُّث عن المعاناة؟ وما هدف البحث والتنظير إذا لم يساعدا في تغيير نظام عالم معيب؟
لم يكن تنبؤ إنجلز «بثورة عنيفة لا يمكن تجنُّب حدوثها» مدعومًا بأدلة تؤكِّد صِدقه (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الرابع). غير أن جهود الطبقة العاملة لتحسين الأوضاع في مكان العمل وفي الإسكان ولمقاومة الآثار السلبية للمنافسة على الأفراد، كان لها أثر كبير في إعادة تنظيم المجتمع تنظيمًا سلميًّا إلى حد ما، وهذه العملية أسهم فيها إنجلز بأن تحدَّى المصلحين ونقَّادَهم حتى يلقوا نظرةً عن كثب على مأساة العمال في ظل مجتمع يتزايد فيه تطور الصناعة.