إنجلز الماركسي
كان إنجلز أول الماركسيين، وكان تأثيره على الماركسية كبيرًا؛ فقد كتب عددًا هائلًا من المقالات والكُتَيِّبات والمقالات النقدية، بالإضافة إلى عدد كبير من الكتب حولها طوال الفترة الممتدة من ١٨٤٩ وحتى وفاته عام ١٨٩٥. وفي كثير من هذه الأعمال حاوَلَ تفسير فرضيات ووجهات نظرِ ماركس، التي أسهم فيها إلى حد كبير. علاوة على ذلك، فقد أصبح مراجعًا ومحررًا لأعمال ماركس؛ إذ كان يكتب المقدمات للطبعات الجديدة من كتبه (والكتب التي اشترك معه في تأليفها)، وكذلك إعداد مخطوطات الأعمال الخاصة بماركس للنشر بعد وفاته عام ١٨٨٣.
في السنة الأولى لتواجد إنجلز في إنجلترا، كان مشغولًا للغاية في الفترة التي أعقبَتِ الأحداثَ الثورية التي وقعت فيما بين عامَيْ ١٨٤٨ و١٨٤٩، فقد كان يتوقَّع على نحو معقول للغاية استمرارَ تلك الأحداث بعد فترة من الهدوء الواضح. وعلى نحو مميز، كان أول مشاريع ماركس في ذلك الوقت هو الاستمرار في إصدار صحيفته السياسية، التي أصبحت الآن تحمل عنوانًا فرعيًّا يصفها بأنها صحيفةَ نقدٍ اقتصادي سياسي، واعدًا بتقديم «استقصاءٍ شامل وعلمي عن الأحوال «الاقتصادية» التي تشكِّل أساسَ الحركة السياسية بأسرها»؛ وكانت مهمة إنجلز هي بوضوحٍ المساهمةَ في تقديم تحليل اجتماعي وتاريخي أوسع نطاقًا إلى حدٍّ ما، يتناول «توضيحَ فترة الثورة التي حدثت للتوِّ، وبيان شخصية الأطراف المتصارعة، والظروف الاجتماعية المحددة لوجود وصراع تلك الأطراف» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد العاشر). وخلال فترة الاثني عشر شهرًا التي أعقبَتْ نوفمبر ١٨٤٩، نشَرَ إنجلز (لكلٍّ من القرَّاء الإنجليز والألمان) آراءَه حول الأحداث الثورية فيما بين عامَيْ ١٨٤٨ و١٨٤٩، والجدل السياسي الدائر حول قانون تحديد ساعات العمل للنساء والأطفال العاملين في المصانع في إنجلترا بعشر ساعات فقط؛ كما كتب أيضًا سلسلة مقالات عن «حرب الفلاحين في ألمانيا»، في سعيٍ لتذكير الشعب الألماني بالشخصيات «الخرقاء التي اتسمت رغم ذلك بالقوة والصلابة في حرب الفلاحين الكبرى.» وألقى نظرةً على أحداث عام ١٥٢٥ قائلًا: «يمكننا أن نرى نفس الطبقات وأطياف الطبقات التي خانت الأحداث الثورية فيما بين عامَي ١٨٤٨ و١٨٤٩ … وإن كان بمستوى تطوُّرٍ أقل» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد العاشر).
في حين أدى ازدهار التجارة والصناعة في إنجلترا وفرنسا إلى تشابُك مصالح البلد بأكمله، ومن ثَمَّ إلى المركزية السياسية، فإن ألمانيا لم يحدث بها أي شيء مغاير سوى تجمُّع المصالح في المقاطعات، حول بعض المراكز المحلية؛ وهذا أدَّى إلى انقسام سياسي؛ ذلك الانقسام الذي سرعان ما أصبح نهائيًّا إلى حدٍّ كبيرٍ باستبعاد ألمانيا من التجارة العالمية. وتوافُقًا مع تفكُّك الإمبراطورية الإقطاعية تمامًا، أصبحت روابط الوحدة الإمبراطورية متحلِّلةً تمامًا؛ فالمدن الكبرى في الإمبراطورية أصبحت ذات سيادة مستقلة تقريبًا، وبدأت تلك المدن من ناحية وفرسان الإمبراطورية من ناحية أخرى يكوِّنون تحالفات؛ إما بعضهم ضد بعض أو ضد الأمراء أو الإمبراطور (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد العاشر).
كان تلخيصه للوضع الألماني ترديدًا لما جاء في «البيان الشيوعي»؛ إذ قال: «شكَّلَت الطبقات العديدة في الإمبراطورية — الأمراء والنبلاء والأساقفة والأرستقراطيون وسكان الحضر والعوام والفلاحون — كتلةً محيِّرة للغاية؛ بسبب احتياجاتهم المتنوعة والمتصارعة.» وسار إنجلز على نهج كتاب «الأيديولوجية الألمانية»؛ فأظهر أن الخلافات الدينية في حقيقتها اجتماعيةٌ وسياسية، فقال: «كانت المعارضة الثورية للإقطاعية حيةً طوال العصور الوسطى، وقد اتخذت أشكال التصوف أو الهرطقة الصريحة أو التمرد المسلح، على حسب ظروف العصر.» وباستخدام هذا الإطار حدَّدَ إنجلز ثلاثة معسكرات أساسية؛ أولًا: معسكر الكاثوليك المحافظين، وهم «كل الأشخاص الراغبين في استمرار الظروف الراهنة؛ وهم: السلطات الإمبريالية، والأمراء الذين يدينون بالولاء للكنيسة وجزء من الأمراء العلمانيين، والنبلاء الأثرياء، والأساقفة والأرستقراطيون من سكان المدن.» ثانيًا: معسكر الإصلاح اللوثري الذي جذب المعتدلين؛ وهم: «كتلة النبلاء الأقل ثراءً، وسكان الحضر بل وبعض الأمراء العلمانيين الذين كان لديهم أمل في تحقيق الثراء من خلال مصادَرة أملاك الكنيسة.» وثالثًا: معسكر الفلاحين والعوام الذي يمثِّل «الطرفَ «الثوري» الذي شرح [توماس] منتسر مطالِبَه ومعتقداتِه بمنتهى القوة» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد العاشر).
كان إنجلز متعاطفًا للغاية مع منتسر، لكن السرد المطول لأحداث حروب الفلاحين التي دارت في عشرينيات القرن السادس عشر، لم يكن بأي حال من الأحوال مجردَ مديح لبطل يساري. لقد كان القائدان لوثر ومنتسر بحقٍّ «انعكاسًا» لتوجهات الطبقة التي يمثِّلهما؛ فتردُّد لوثر كان مشابهًا للسياسات المترددة التي ينتهجها سكان الحضر، وكان حماس منتسر الثوري مشابهًا لذلك الخاص بالعوام والفلاحين الأكثر تقدُّمًا، إلا أن منتسر تجاوَزَ مطالبَهم المباشرة إلى حد بعيد، وبقيامه بهذا وجد نفسه في موقف يصعب التعامل معه؛ «إن أسوأ شيء يمكن أن يحدث لقائد حركة متطرفة هو تسلُّم السلطة في وقتٍ تكُون فيه الحركة ليست مستعدة بعد للسيطرة على الطبقة التي يمثِّلها ذلك القائد.» ولم تكن حركة منتسر ولا الظروف الاقتصادية التي وجد نفسه فيها مناسِبةً للتغيُّرات الاجتماعية التي تصوِّرها، والتي كانت متمثِّلة في الملكية المشتركة والتزام الجميع بالعمل، وإلغاء كافة أشكال السلطة. إن تلك التغيُّرات الاجتماعية على الرغم من أنها كانت ممكنةً فعليًّا وفي طريقها للتحقُّق، فإنها كانت — كما رأى إنجلز — تمثِّل تحوُّلًا من المجتمع الإقطاعي إلى البرجوازي؛ أيْ إنها تقدِّم نظامًا تجاريًّا تنافسيًّا مناقِضًا تمامًا لأفكار منتسر. وفي ظل هذه «المعضلة التي لا حلَّ لها»، فإن الأمور التي يمكن للقائد أن يفعلها «تتعارض مع كل أفعاله ومبادئه السابقة والمصالح المباشرة للطبقة التي يمثِّلها، والأمور التي «يجب» أن يفعلها لا يمكن إنجازها» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد العاشر).
وعلى الرغم من أوجه الشبه بين الأحداث الثورية فيما بين عامَي ١٨٤٨ و١٨٤٩ وثورة ١٥٢٥ — التي قسمت وحددت القوى الثورية التي تحارب الخصوم على أساس الانتماء إلى اليمين واليسار — فقد توقَّع إنجلز نجاحَ الحركة الثورية المعاصرة؛ لأنها لم تكن شأنًا محليًّا، بل كانت جزءًا من حدث أوروبي النطاق (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد العاشر).
كانت دراسة إنجلز لحرب الفلاحين في ألمانيا أول مؤلَّف ماركسي عن «التاريخ»، وأوضحَ فيها إنجلز أن الصراعات التي بدت دينيةً لم تُحلَّ جميعها على أساس ديني، وأنه خَلْف «الغطاء الديني» تكمن «مصالح واحتياجات ومتطلبات» الطبقات المختلفة. وبالمثل، زعم إنجلز أن الثورة الفرنسية التي حدثت عام ١٧٨٩ كانت أكبر من «مجرد جدال محتدم» حول مزايا الملكية الدستورية مقارَنةً بالملكية المطلقة، وأن ثورة يوليو ١٨٣٠ لم يكن سببها فقط «استحالة تحقيق العدالة في ظل «فضل الرب»»، وأن ثورة فبراير ١٨٤٨ لم تكن ببساطة «محاولةً لحل مسألة المفاضلة بين الجمهورية والملكية»؛ فخلف هذه الصراعات السياسية توجد دائمًا مشكلات اقتصادية لدى الطبقات الاجتماعية (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد العاشر). وصاغ إنجلز بدرجة كبيرة مناهِجَ ومصطلحات التأريخ الماركسي في هذا العمل الرائد.
سرعان ما انتهى التفاؤل الثوري الذي ظهر في كتاب «حرب الفلاحين في ألمانيا» الذي كتبه إنجلز في صيف وخريف عام ١٨٥٠، وترك إنجلز لندن لأسباب مالية، وعمل موظفًا في شركة العائلة في مانشستر؛ وبحلول عام ١٨٥١ كانت الهيئات الشيوعية التي كان إنجلز مرتبطًا بها في سنوات العمل الثوري قد انهارت، وبعد ذلك لم يكن أمامه وقت كبير للانخراط الرسمي في السياسة بسبب ظروفه المهنية في مانشستر، وقد استمر ذلك حتى مع تأسيس الاتحاد الدولي (الاتحاد الدولي الأول) للعمال عام ١٨٦٤ للترويج لقضية الاشتراكية؛ وكان ماركس من بين مؤسسي هذا الاتحاد، وقد كرَّسَ جزءًا كبيرًا من وقته لاجتماعات وَلِجان وبيانات الاتحاد. وانتقل إنجلز بسهولة إلى لعب دور الخبير الأكبر سنًّا والمستشار الأول، وليس المؤسِّس أو المنظِّم في الحركة الاشتراكية الدولية. وبعد تقاعُده من مصانع غزل القطن عام ١٨٦٩، تمكَّنَ من شَغْل منصب في المجلس العام للاتحاد الدولي للعمال عام ١٨٧٠، وتحمَّلَ بعضَ المهام الخاصة بالمراسلات مع تزايد عدد الأحزاب والمجموعات الاشتراكية حول العالم. كان إنجلز مهتمًّا بطبيعته اهتمامًا خاصًّا بالحزب الألماني الاشتراكي الذي تأسَّسَ عام ١٨٦٩، وبعد الانهيار النهائي للاتحاد الدولي للعمال عام ١٨٧٤ لعب دورًا فعَّالًا بصفته مستشارًا غير رسمي لمسئولين كبار في قيادة الحزب، وكان انخراطه في الاتحاد الدولي الثاني للعمال الذي تأسَّس عام ١٨٩٩، انخراطًا عن بُعْدٍ مثلما كان في السابق، على الرغم من أن إحدى آخِر مرات ظهوره الرسمي كانت في مؤتمر الاتحاد في زيوريخ عام ١٨٩٣.
لا عجب أن إنجلز كان يُضمِر الكراهيةَ لمدينة مانشستر ولرجال الأعمال الذين كان مضطرًّا للتعامُل معهم، وعندما ترك شركة العائلة عام ١٨٦٩ انتقل سريعًا إلى لندن ليكون بالقرب من ماركس. تُوفيت ماري بيرنز عام ١٨٦٣، وحَلَّتْ أختها ليزي محلَّها في حياة إنجلز حتى عام ١٨٧٧ عندما تزوَّجَها إنجلز قبل يوم من وفاتها؛ وبعد ذلك كانت ابنة أخت ليزي هي مَن تدير منزل إنجلز، وبدايةً من عام ١٨٨٣ تبعتها هيلينا ديموت، مديرة منزل ماركس السابقة، وبعد وفاة هيلين عام ١٨٩٠ أصبحت لويز كاوتسكي، مُطلَّقةُ الاشتراكي الألماني كارل كاوتسكي، سكرتيرةَ إنجلز ومديرةَ منزله، وعندما تزوَّجت من دكتور لودفيج فريبرجر عام ١٨٩٤ انضمَّ أحد الأطباء إلى مسكنه الكائن في طريق ريجينت بارك.
كان إنجلز كريمًا في وقته وماله مثلما كان كريمًا في نصائحه. إن إحسانه إلى ماركس وأسرته أنقذهم في مرات عديدة من مصائر أشد بلاءً من الفقر والشقاء اللذين عاشوا فيهما؛ ففي عام ١٨٧٠ كان إنجلز قادرًا على مَنْحهم قدرًا من الاستقلال المادي، في الوقت نفسه الذي كان يوفِّر فيه لنفسه هذا الاستقلالَ، واستفاد كثير من المهاجرين والزائرين الاشتراكيين من كرم ضيافته ومساعداته، كما حصل أبناءُ ماركس وكذلك أحفاده الذين بقوا على قيد الحياة بعد وفاة إنجلز، على جزءٍ من تركته الكبيرة بعد وفاته بسرطان الحنجرة في ٥ أغسطس ١٨٩٥.
في السنوات الأولى في المنفى، قام إنجلز بمساعدة ماركس أيضًا من خلال كتابة المقالات نيابةً عنه باللغة الإنجليزية؛ فقد طُلِب من ماركس أن يكون مراسِلًا لصحيفة «ذا ديلي تريبيون» في نيويورك، لكنه لم يكن قد أتقن حتى عام ١٨٥٣ كتابةَ اللغة الإنجليزية إلى الحد الذي يمكِّنه من كتابة المقالات بنفسه؛ فعمل إنجلز مؤلِّفًا ومترجمًا وتلقَّى ماركس الأجرَ. لقد ظلت سلسلة مقالات «الثورة والثورة المضادة في ألمانيا» المكتوبة في الفترة ما بين عامَي ١٨٥١ و١٨٥٢، والتي أُعِيد نشرُها مرتين عام ١٨٩٦ (باللغة الإنجليزية وبالترجمة الألمانية)، تُنسَب إلى ماركس لا إنجلز، إلى أن نُشِر خطابٌ بينهما كانَا يتحدثان فيه عن هذا الأمر عام ١٩١٣. وفي هذا العمل، استعرض إنجلز بالتفصيل الأحداث الثورية التي حدثت في ألمانيا في الفترة ما بين عامَي ١٨٤٨ و١٨٤٩، وشهدها بنفسه وسجَّلَ أحداثَها في الصحافة وقت حدوثها، فقط قبل ثلاث سنين أو أقل من تأليف الكتاب. وقام ماركس بمهمةٍ مشابِهةٍ في سلسلة مقالاته «النضال الطبقي في فرنسا» (المكتوبة في النصف الأول من عام ١٨٥٠)، وفي استكمال قصة «انقلاب الثامن عشر من برومير للوي بونابرت» (المكتوبة في أواخر عام ١٨٥١ وأوائل عام ١٨٥٢). أما إنجلز فلم يكمل مطلقًا السلسلة التي وعد فيها أن «يُلقِي نظرةَ وداعٍ أخيرة على الأعضاء المنتصرين في تحالُف الثورة المضادة»، مثلما فعل ماركس في قصة «انقلاب الثامن عشر من برومير للوي بونابرت» التي تتحدث عن فرنسا (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الحادي عشر).
وفي كتاب «الثورة والثورة المضادة في ألمانيا»، اتبع إنجلز البرنامج الماركسي فيما يتعلق بالتاريخ المعاصر والتطورات السياسية في المستقبل، وكانت مهمته هي تفسير الأحداث الرئيسية وتقديم مؤشرات حول الاتجاه الذي سوف تأخذه الفورات الثورية القادمة في ألمانيا، أو التي ربما ليست ببعيدة عنها. ومثلما كان لزامًا عدمُ تفسير النضال الثوري في العصور الوسطى على أساس الخلافات الدينية، بالرغم من ظاهرها الذي يوحي بذلك، كان لزامًا أيضًا عدمُ تفسير أسباب اندلاع الثورات الحديثة والقضاء عليها، بغضِّ النظر عن ظاهرها، على أساس عدم تنسيق الجهود أو خيانة بعض قادتها، بل يجب تفسيرها في ضوء الحالة الاجتماعية و«الظروف المعيشية» لكل أمة. وعرض إنجلز الخلفيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأدبية والفلسفية لأحداث التمرُّد التي حدثت عام ١٨٤٨ في فيينا وبرلين، وقال إنه بعد الانتصار «انقلبت على الفور … الطبقة البرجوازية الليبرالية» على حلفائها من الطبقة العاملة — «الأحزاب الشعبية والأكثر تقدُّمًا» — وعَقَدَت «تحالُفًا مع المصالح الإقطاعية والبيروقراطية المهزومة» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الحادي عشر).
وجدت هذه الثورة غير المكتملة خير مثال لها، وفقًا لإنجلز، في الجمعية الوطنية الألمانية في فرانكفورت؛ فهذه الجمعية كانت تمارس «نشاطًا مزيفًا فضوليًّا لا يمكن أن يثير عقمُه الشديد إلى جانب ادعاءاته المزعومة أيَّ شيء سوى الشفقة والسخرية»؛ كل هذه الأحداث كانت معتمدة على مصير الصراعات الثورية في فرنسا؛ أولًا في فبراير مع إعلان الجمهورية، ثم في العمل الحاسم في يونيو ١٨٤٨، وكتب إنجلز: «يمكن خوضُ الصراع الثوري في فرنسا وحدها، في ظل عدم اشتراك إنجلترا في النضال الثوري، وبقاء ألمانيا مقسَّمة؛ لأن فرنسا باستقلالها الوطني وحضارتها ومركزيتها هي البلد الوحيد الذي يستطيع نقل زخم الاضطراب الرهيب إلى بقية البلاد المجاورة.» كانت هزيمة الطبقة العاملة في يونيو على يد الطبقات الأخرى التي دعمها الجيش مهمة، ويرى إنجلز أنه كان «واضحًا للجميع أنها كانت المعركة الحاسمة الكبيرة، التي في حالة نجاحها كانت ستجرُّ القارةَ بأسرها إلى ثورات جديدة، أو ستؤدي في حالة إحباطها إلى استعادة الحكم المناهِض للثورات، ولو لفترة قصيرة» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الحادي عشر).
إن العرض القصير السابق للطبقات الأكثر أهمية، التي كوَّنت بإجمالها الأمة الألمانية عند اندلاع الحركات الثورية الأخيرة، سيكون كافيًا بالفعل لتفسير جزء كبير من عدم الترابط وعدم التوافق والتعارض الواضح الذي ساد تلك الحركة؛ فعند حدوث تصادم عنيف بين المصالح الشديدة الاختلاف والتصارع والتعارض، وعندما تختلط تلك المصالح المتنافسة في كل حي وكل مقاطعة، بنِسَب مختلفة، وفوق كل ذلك عندما لا يوجد مركز كبير للبلد، مثل لندن أو باريس، يمكن لقراراته، بموجب ثقلها، أن تَحُول دون الحاجة إلى خوض الصراع نفسه مرارًا وتكرارًا في كل مكان؛ فما الذي يمكن توقُّعه سوى أن يتحلَّل الصراع من تلقاء نفسه إلى كتلة من الصراعات غير المترابطة، التي يُهدَر فيها قدرٌ هائل من الدماء والطاقة ورأس المال، دون أن تتحقَّق نتائجُ حاسمةٌ في المقابل؟ (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الحادي عشر).
قدَّمت دراسات ماركس الاقتصادية، التي عكف على كتابتها مرة أخرى بجدية في خمسينيات القرن التاسع عشر، بُعْدًا تفاؤليًّا إلى آراء إنجلز حول الحياة السياسية؛ ذلك التفاؤل الذي لم تستطع أن تقدِّمه له الأحداثُ الأخيرة وكذلك سياسات الهجرة؛ إذ كان ماركس يعتقد أنه يثبت أن النظام الرأسمالي لا يمكن أن يستمر لفترة أطول. وكان كلاهما يرى أن حدوث أزمة رأسمالية في أوروبا وفي العالم بالفعل هو أساس التقدُّم الثوري.
بعد عقد من الفقر والمرض والمقاطعات الصحفية، نُشِر أول جزء منشور من رائعة ماركس، الخاصة بنقد الاقتصاد السياسي، عام ١٨٥٩. وهذه النسخة (الأكثر إثارةً) التي كان مقدَّرًا أن تكون، مع أعمال أخرى، الفصولَ الأولى للمجلد الأول من كتاب «رأس المال»؛ ظهرت باللغة الألمانية تحت عنوان «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي». وضع ماركس خطةَ العمل التي كان سيراجعها إنجلز، وطلب ماركس من إنجلز في خطاب بتاريخ ١٩ يوليو ١٨٥٩ أن يكتب تعليقًا مختصرًا حول المنهجِ النقدي المتَّبَع في العمل، والأمورِ الجديدة في محتويات ذلك العمل، ومن فرط توتُّر ماركس أرسل رسالة أخرى بتاريخ ٢٢ يوليو إلى إنجلز يمده فيها بمزيد من الاقتراحات (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد التاسع والعشرون). ظهر جزءان من العمل (والجزء الثالث الذي وعد ماركس بتقديمه عن المحتوى الاقتصادي نفسه للعمل لم يُكتب مطلقًا)، وأصبح إنجلز على الفور المروِّج الأول لاكتشافات ماركس في علم الاجتماع، والمعلِّق الأول على منهجه النقدي. كانت هذه التعليقات أكبرَ تأثيرًا من المحاولة التي فعلها ماركس فيما بعدُ لترويج أفكاره الاقتصادية من خلال محاضراته عن «الأجور والأسعار والأرباح»، التي ألقاها عام ١٨٦٥. إن تعليقات ماركس على منهجه — التعليقات المختصرة للغاية التي نُشِرت في حياته، مثل الخاتمة التي كتبها لكتاب «رأس المال» والتي نُشِرت عام ١٨٧٢، والتقييمات الأطول المأخوذة من مخطوطاته والمنشورة بعد وفاته، مثل «المقدمة» التي ظهرت عام ١٨٥٧، والتي تفتتح كتاب «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي» — لم تحظَ بالأهمية إلا مؤخرًا فحسب.
اتَّبَع إنجلز مرة أخرى نفس المنهج الذي اتبعه في «الأيديولوجية الألمانية» و«البيان الشيوعي» في تناول إنجازات ماركس من خلال تاريخ ألمانيا الاقتصادي؛ فشلها — بعد الإصلاح وحروب الفلاحين — في تطوير ظروف إنتاج الطبقة البرجوازية الواضحة في هولندا وإنجلترا وفرنسا؛ ومن ثَمَّ أحرز علم الاقتصاد السياسي في ألمانيا قدرًا قليلًا من التقدُّم، ورفض إنجلز الكتابات الألمانية المعاصرة التي تتناول هذا الموضوع واصفًا إياها بأنها: «عصيدة مكوَّنة من كافة أنواع المواد الغريبة، مضاف إليها قليلٌ من الصوص الاقتصادي الانتقائي، ومثل هذا المزيج سيكون معرفةً مفيدة لطالب كلية حقوق حكومية يستعِدُّ لامتحان آخِر العام الذي يتم على نطاق الدولة.» وعندما ظهر حزب البروليتاريا الألماني على الساحة (في أربعينيات القرن التاسع عشر)، وُلِد الاقتصاد العلمي الألماني، وكتب إنجلز فقال إن علم الاقتصاد الجديد كان «يقوم بصورة أساسية على «التصور المادي للتاريخ»» الذي يمكن تطبيقه على «كل العلوم التاريخية.» واستطرد إنجلز فكتب: «في أطروحتنا المادية، نثبت في كل قضية بعينها كيف كان الفعل في كل مرة نابعًا من دوافع مادية مباشرة، وليس من العبارات المصاحبة للفعل» (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الأول). وكانت عبارة «التصور المادي للتاريخ» التي قالها إنجلز هي التي أدَّتْ إلى ظهور الماركسية.
في الجزء الثاني من مراجعته النقدية، أضاف إنجلز عنصرًا آخر مهمًّا إلى هذه النظرة الأساسية، وهو «المنهج الجدلي» الماركسي. ولتوضيح هذا المصطلح، تحدَّث إنجلز عن ثلاثة فروق: أما عن الفرق الأول، فقد قارن إنجلز إنجازات هيجل في التعامل مع «التداخل» و«الفئات» في العلوم مع «طريقة التفكير الميتافيزيقية القديمة»، التي وجد أنها شبيهة باستخدام «الفئات الثابتة» التي تعكس «مادية علمية طبيعية جديدة … لا يمكن تمييزها تقريبًا من الناحية النظرية عن نظيرتها في القرن الثامن عشر»؛ وبعد ذلك ربط طريقة الفهم الميتافيزيقية هذه «بالفهم العادي للطبقة البرجوازية»؛ ذلك الفهم الذي «يصاب بالجمود» عند مواجهته بفصل «الجوهر عن المظهر، والسبب عن النتيجة.» وعلى الرغم من إنجازات هيجل في ربط تطوُّر الفكر بالتاريخ العالمي، فإن الفيلسوف الكبير قد أنتج منهجًا جدليًّا «عكس فيه العلاقة الحقيقية وقلبها رأسًا على عقب.» لقد كان منهجًا «تجريديًّا ومثاليًّا»؛ وحده ماركس كان مؤهلًا «للقيام بعملية استخراج الجوهر المهم الذي يمثِّل الاكتشافات الحقيقية لهيجل من المنطق الهيجلي» (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الأول).
أما الفرق الثاني الذي قدمه إنجلز في مراجعته النقدية، فقد تكوَّن من «المنهج الجدلي» الماركسي الذي انتُزعت فيه «السمات المثالية» من المنطق الهيجلي، على الرغم من أنه لم يحدِّد «الشكلَ البسيط» الذي أصبح فيه «الجدل» الماركسي يمثِّل «الشكلَ الحقيقي الوحيد لتطوُّر الفكر» (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الأول).
وفي الفرق الثالث حاوَلَ إنجلز مقارَنة المنهج «التاريخي» بالمنهج «المنطقي» داخل النقد «الجدلي» الماركسي لعلم الاقتصاد، وأعلن إنجلز على نحوٍ عامٍّ أن الأحداث التاريخية و«انعكاساتها الأدبية»، أيْ في النظرية الاقتصادية، تسير «من العلاقات الأبسط إلى العلاقات الأكثر تعقيدًا»؛ وبعد ذلك ربط هذا التطوُّرَ «بالتطوُّر المنطقي للفئات الاقتصادية»؛ ولذلك كان المنهج المنطقي في نقد الاقتصاد السياسي مجردَ اختزال «لقفزات وتعرُّجات» تاريخية، وهو ما تمثَّل في استبعاد الأمور «الأقل أهميةً»، وحذْف التاريخ الكامل «للمجتمع البرجوازي»؛ ومن ثَمَّ كان «المنهج المنطقي انعكاسًا للمسار التاريخي في شكل تجريدي ومتسق نظريًّا» (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الأول).
في ظلِّ هذا التحليل المنطقي يكون لكلِّ علاقة اقتصادية — وفقًا لإنجلز — «جانبان»، وكل جانب من هذين الجانبين يتم تناوله على حدة، وبعد ذلك يتم تناول تفاعلهما معًا، «وسوف تحدث متناقضات ستتطلَّب حلًّا في العملية الحقيقية للتفكير»، وليس فقط في «العملية التجريدية للتفكير.» كتب إنجلز أنه يتم التوصل إلى الحلول «من خلال تكوين علاقة جديدة سوف نضطر إلى تطوير كلا جانبَيْها المتقابلين، وهكذا» (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الأول).
في افتتاحية مراجعته النقدية، اقتبس إنجلز كثيرًا من مقدمة ماركس لكتاب «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي»؛ ذلك الكتاب الذي أوضح فيه ماركس بنفسه «الفكرة الأساسية» التي تقوم عليها دراساته؛ وبعد ذلك جاء تكوين إنجلز لمفهوم «التصوُّر المادي للتاريخ» والفروق المنهجية الثلاثة، عن طريق التفسير. إن تقييم إنجلز النقدي وضَعَ أسسَ تفسيرِ كتاب ماركس وأسسَ شرحِ الماركسية نفسها.
وسواء أكان تأويل إنجلز صحيحًا أم لا، فقد كان بلا شك مفسرًا؛ ففي حين تحدَّثَ فيها ماركس عن «الفكرة الأساسية» الخاصة به، كتب إنجلز عن «التصور المادي للتاريخ». لقد كتب ماركس قائلًا إن أعمال هيجل عن الاقتصاد السياسي في «فلسفة الحق» هي التي دعته لحل الشكوك المتعلقة «بما يُسمَّى المصالح المادية» و«المسائل الاقتصادية»؛ وأضاف إنجلز إلى هذا السياق تفسيرًا واضحًا في ضوء الميتافيزيقا والمادية والمثالية والجدل والتفاعل والتناقض والانعكاس، كما هو موضح في الاقتباسات السابقة. وبينما قرَّر ماركس الانطلاق «من الخاص إلى العام» في شرحه لرأس المال، دعم إنجلز أطروحةً أوسع تخصُّ التاريخ والتطور الفكري للمجتمع الغربي (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الأول). وفي حين كان ماركس على معرفة تامة بنقد هيجل للمنطق التقليدي، وفي الوقت نفسه كان على معرفة بالخطأ المزعوم المتمثِّل في فرضيات هيجل المثالية (اعتبار الأفكار هي مكون الواقع)، لا يمكن القول بأنه استطاع توظيفَ المنهج الذي أوضحه إنجلز. لم يُظهِر ما كتبه إنجلز أدواتِ الاستقصاء التي كانت في متناول ماركس في عمله عن الاقتصاد السياسي؛ ذلك لأن ماركس كان يستخدم العديدَ من الأساليب والأمثلة المبينة للفوارق كلما وجدها مناسِبةً. أما أسلوب إنجلز المتمثِّل في التفسير وعقد المقارنات الموضحة للفروق وتقديم الحلول، فقد أعطى انطباعًا بأن ماركس كان يعكس فحسب سيرًا للأحداث التاريخية بدلًا من إخضاع نظرية اقتصادية كبيرة إلى التحليل المنطقي والفلسفي والرياضي والاجتماعي والسياسي والتاريخي. وعاودَت مفاهيمُ المادية والميتافيزيقا والجدل والتفاعل والتناقض والانعكاس، الظهورَ مرةً أخرى بقدر كبير من التفصيل، في كتابات إنجلز التالية، وسوف أُلقِي الضوءَ على تلك المفاهيم في الفصلين السادس والسابع.
هذه القوانين، المثبتة علميًّا على نحو دقيق — والتي يحرص علماء الاقتصاد الرسميون حرصًا كبيرًا على محاولة عدم تفنيدها على الإطلاق — هي بعضٌ من القوانين الأساسية للنظام الاجتماعي الرأسمالي المعاصر. لكن هل هذا يوضح الأمر برمته؟ لا، على الإطلاق؛ إن ماركس يبرز بوضوح الجوانب السيئة للإنتاج الرأسمالي، لكنه بالقدر نفسه من التأكيد يُثبِت بوضوح أن هذا النظام الاجتماعي كان ضروريًّا لتطوير القوى الإنتاجية للمجتمع لمستوًى يمكن عنده حدوث تطور مكافئ مناسب للبشر ولكل أفراد المجتمع. كل النظم الاجتماعية السابقة كانت أفقر بكثير من أن تحقق ذلك، وكان الإنتاج الرأسمالي أول ما كوَّنَ الثروةَ وقوى الإنتاج اللازمتين لحدوث ذلك التطور، لكنه أَوْجَدَ في الوقت نفسه، بين العمال الكثيرين المقهورين، طبقةً اجتماعيةً أكثر إكراهًا على امتلاك الثروة وقوى الإنتاج لاستخدامهما من أجل المجتمع بأسره … (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلدان الأول والسادس عشر).
اعتَبر ماركس أن العلم قوة ثورية ديناميكية على مر التاريخ، وعلى الرغم من أنه كان يستقبل بسعادة بالغة أيَّ اكتشافٍ علمي جديد في بعض العلوم النظرية، التي ربما كان تطبيقُها العلمي مستحيلَ التصوُّر إلى حدٍّ ما في ذلك الوقت، فقد كان يشعر بنوع مختلف تمامًا من السعادة عندما يكون الاكتشاف منطوِيًا على تغييرات ثورية فورية في مجال الصناعة، وفي مجال التطوُّر التاريخي في العموم (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
في السنوات التي أعقبت وفاة ماركس عام ١٨٨٣ قدَّمَ إنجلز مقدماتٍ لطبعات جديدة من كُتَيِّب «البيان الشيوعي» الذي ألَّفَاه معًا (خمس طبعات)، ومن كتابه «حالة الطبقة العاملة في إنجلترا» (طبعتين)، ولثمانية من أعمال ماركس؛ وهي: «الحرب الأهلية في فرنسا»، و«النضال الطبقي في فرنسا»، و«محاكمة الشيوعيين في كولونيا»، و«نقد برنامج جوته»، و«انقلاب الثامن عشر من برومير للوي بونابرت»، و«فقر الفلسفة»، و«خطاب عن التجارة الحرة»، و«العمل المأجور ورأس المال». قدَّمَ لكل هذه الأعمال ملاحظاتٍ وتغييراتٍ تحريريةً، لكن مشروعاته الأساسية باعتباره محررًا لماركس تمثَّلت في المجلدين الثاني والثالث من كتاب «رأس المال» (مع المقدمات)، المأخوذَين من مخطوطات ماركس غير المنشورة.
يمكن توضيح دور إنجلز بصفته حارسًا لِمَا اعتبره اكتشافات ماركس في العلوم التاريخية والاقتصادية، من خلال الالتفات إلى مقدمتين من المقدمات المذكورة في السابق؛ فلقد أعاد إنجلز نشرَ مقالات ماركس التي تحمل عنوان «النضال الطبقي في فرنسا» في صورة كُتَيِّب عام ١٨٩٥ وقدَّمَه باعتباره: «أولى محاولات ماركس في تفسير جزء من التاريخ المعاصِر في ضوء تصوُّره المادي، وعلى أساس الوضع الاقتصادي المعروف.» وكانت مهمة ماركس، وفقًا لإنجلز، هي «توضيح العلاقة السببية الداخلية» في التطوُّر التاريخي الذي كان ضروريًّا ومميزًا لأوروبا، وكان الهدف من ذلك هو «تتبُّع الأحداث السياسية بالعودة إلى آثارِ ما اتضح، في التحليل النهائي، أنه أسباب اقتصادية.» إلا أن القارئ الذي بحث عن قوائم محدَّدة لتلك الأسباب الاقتصادية في كتاب «النضال الطبقي في فرنسا»، سوف يصاب بالإحباط، كما صرَّحَ إنجلز في إحدى الفقرات التوضيحية في الكُتَيِّب؛ وقد كتب إنجلز فقال إن العوامل الاقتصادية كانت «معقدة ومتغيرة باستمرار»؛ لذلك فإن «الطريقة المادية المذكورة هنا في الغالب تحصر نفسها إلى حدٍّ ما في إرجاع الصراعات السياسية إلى الصراعات بين مصالح الطبقات الاجتماعية الحالية وبعض أطياف من الطبقات الأخرى»؛ ومن ثَمَّ يمكن إثبات أن الأحزاب السياسية كانت تعبيرًا سياسيًّا عن تلك الطبقاتِ وبعضِ أطياف من الطبقات الأخرى (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الأول).
الواقع أن إنجلز كان يشير إلى مصدر خطأ كبير في سرد ماركس الذي كتبه عام ١٨٥٠؛ نظرًا لأن «التاريخ الاقتصادي لفترة معينة لا يمكن أبدًا تناوُلُه في وقته المعاصر»، بل يتم تناوله فقط بعد استعراض البيانات الإحصائية، على سبيل المثال، التي لا بد من جمعها في فترات تالية؛ إلا أن سرد ماركس لأحداث عامَي ١٨٤٨ و١٨٤٩ أثبت صحته عند الخضوع لاختبار مزدوج — من وجهة نظر إنجلز — متمثل في الدراسة اللاحقة للظروف الاقتصادية لتلك الفترة، وكذلك إعادة نظر ماركس نفسه في تلك الأحداث في ضوء انقلاب نابليون بونابرت في أواخر عام ١٨٥١. ومع ذلك، فإن سرد ماركس للأحداث السياسية المعاصرة فيما يتعلَّق بالطبقات والأحزاب والأفراد، لا يتناسب مع القالب المنهجي الذي يتبناه إنجلز، والذي يركِّز على «الأسباب الاقتصادية «النهائية»» في «حركة الصناعة والتجارة» (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الأول).
في عام ١٨٩١ عندما أُعِيد نشر مقالات ماركس في كتاب «العمل المأجور ورأس المال» — تلك المقالات التي كانت قد نُشِرت عام ١٨٤٩ — تساءَلَ إنجلز في مقدمته للكتاب عما «إذا كان ماركس سيوافق على تقديم نسخة جديدة غير معدَّلة من إنتاجه الأصلي» في صورة «كُتَيِّب ترويجي»، وكتب أن «ماركس كان بالتأكيد سيجعل مقالاته القديمة التي يعود تاريخها إلى عام ١٨٤٩ متسقةً مع وجهة نظره الجديدة»، التي فصَّلها في كتابه «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي» الذي نُشِر عام ١٨٥٩، وفي المجلد الأول من كتاب «رأس المال» الذي نُشِر عام ١٨٦٧؛ ولهذا السبب حذَّر إنجلز القرَّاءَ قائلًا: «هذا الكتيب ليس كما كتبه ماركس عام ١٨٤٩، بل يمكن القول إنه كما كان سيكتبه عام ١٨٩١.» كل تعديلات إنجلز تعتمد على نقطة واحدة؛ أَلَا وهي أن العامل، وفقًا للنص الأصلي، يبيع عمله للرأسمالي مقابل الأجر، بينما في تصوُّر ماركس الناضج كان العامل يبيع «قوة» عمله؛ هذا التعديل الذي يبدو صغيرًا مكَّنَ ماركس من الخروج من مأزق اقتصادي، من خلال وضع نظرية فائض القيمة (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الأول). أما في عمل ماركس المنشور عام ١٨٤٩، فقد أشار ماركس بالفعل إلى العمل باعتباره: «القوة الإبداعية التي لا يستبدِل بها العاملُ فحسب ما يستهلكه، بل يعطي من خلالها للعمل المتراكم قيمةً أكبر ممَّا كانت لها في السابق.» كان هذا جوهرَ تصوُّر ماركس عام ١٨٥٩، وإن لم يكن باستخدام المصطلحات المحددة نفسها؛ وهذا ما صحَّحه إنجلز بحماس (أعمال ماركس وإنجلز بالألمانية، المجلد السادس).
وقت إعداد مادة الكتاب الذي بين أيدينا (عام ١٩٨٠)، لم يكن الأكاديميون قد تحققوا من الكتاب الذي حرَّره إنجلز من مسوَّدات المخطوطات التي تركها ماركس للمجلدين الثاني والثالث من كتاب «رأس المال»؛ لأن المخطوطات نفسها — التي قيل إنها كانت في موسكو — لم تكن متاحةً لهم. وسَيَحِين وقت نشر تلك المخطوطات خلال العقود المتبقية من هذا القرن، وحينها سوف نعلم بالضبط كيف تصوَّرَ إنجلز في هذه الأعمال «حدود التحرير»، تلك الجملة التي استخدمها بنفسه في مقدمة المجلد الثالث. وفي الوقت الراهن (عام ٢٠٠٣)، سوف تبدأ هذه المناقشة الأكاديمية المثيرة للجدل.
منذ أن وجد نقدُ الاقتصاد السياسي الذي كتبه ماركس طريقَه إلى الصحافة عام ١٨٥٩، أصبحت آراء إنجلز حول أعمال ماركس، وأعماله الشخصية، وحول التاريخ والسياسة، تصطبغ على نحو متزايد بلغة السببية النهائية وقوانين التطوُّر العلمية. نالت هذه الموضوعات تفصيلًا مستقلًّا في الأعمال المهمة التي كتبها إنجلز في الفترة ما بين ١٨٧٠ و١٨٩٥. وتلك هي الأعمال التي قدَّمَتْ — وما زالت تقدِّم — لملايين القرَّاء الشروحَ التقليدية للماركسية.