القسم الأول

يفكِّر المرء أحيانًا في تسلسُل الأحداث الصغيرة التي يعتمد عليها أهم ظروف حياته، ويتأمل ما مضى من حياته ويرتجف، مدركًا كَمْ كان قريبًا من حافة العدم. قد يسير شابٌّ في الشارع مصادفةً، لا تشغل ذهنَه فكرةٌ محدَّدة ولا يتجه إلى وجهةٍ محدَّدة؛ ثم يصل إلى تقاطُع طرق، ومن دون سبب يمكنه ذكره، ينحرف ناحية اليمين بدلًا من اليسار؛ ومن ثَمَّ يلتقي فتاةً ذات عينَين زرقاوَين، تجعل قلبه ينبض. يلتقي بالفتاة ويتزوَّجها؛ وتُصبح هذه الفتاة والدتك أنت. ولكن دعنا نفترض أن الشاب انحرف نحو اليسار بدلًا من اليمين، ولم يلتقِ بالفتاة ذات العينَين الزرقاوَين؛ أين ستكون أنت الآن، وماذا كان سيحدُث لتلك القدرات الذهنية التي تعتبرها مهمةً للعالم، وتلك الأعمال التجارية الجدِّيَّة التي تكرِّس وقتك لها؟

حدث شيءٌ من هذا القبيل لبيتر جادج؛ مجرد حادثٍ شبيه بما ذكرتُ سابقًا، ولكنه غيَّر مسار حياته بالكامل، وبدأ سلسلة الأحداث التي تتناولها هذه القصة. كان بيتر يمشي في الشارع عصر أحد الأيام عندما اقتربت منه امرأة وقدَّمت له نشرةً مطبوعة، وقالت: «اقرأ هذا، من فضلك.»

وبغلظةٍ أجابها بيتر، الذي كان جائعًا، وفي خلاف مع العالم بأَسْره: «لا أملك أي مال.» فقد حسِبها نشرةً إعلانية. «لا يمكنني شراء أي شيء.»

أجابته المرأة: «لا أعرض عليك سلعًا لأبيعها. إنها رسالة.»

قال بيتر: «هل لها علاقة بالدين؟ لقد طُردتُ من كنيسةٍ للتو.»

قالت المرأة: «لا، ليست كنيسة. إنها شيءٌ مختلف؛ ضعها في جيبك.» كانت امرأةً مسنة ذات شعرٍ رمادي، وكانت تتبع هذا الغريب الضعيف الذي يبدو عليه الفقر وهي تبتسم بلطف، ولكنها ظلَّت تُلِح عليه قائلة: «اقرأه في وقتٍ ما عندما لا يكون لديك شيءٌ آخر تفعله.» فأخذ بيتر النشرة منها فقط لكي يتخلص منها، ووضعها في جيبه، ومضى في طريقه، وفي غضون بضع دقائق، كان قد نسي كل شيء عن الأمر.

كان بيتر يفكِّر، أو بالأحرى كانت مَعدة بيتر تفكِّر بالنيابة عنه؛ لأنه إذا لم يدخل جوفك شيءٌ طوال اليوم، واليوم الذي سبقه سوى كوب من القهوة وساندويتش واحد، فستنتقل مراكز تفكيرك من أعلاك إلى وسطك. كان بيتر يفكر أن حياته هذه مريعةٌ أشبه بالجحيم. من كان يتوقع أنه لمجرد أنه سرق كعكة دونات مقلية بائسة واحدة، سيفقد وظيفته السهلة وفرصته في الارتقاء في العالم؟ كان وجود بيتر بأكمله يتمحور حول بذل الجهد للارتقاء في العالم؛ وتحقيق النجاح، الذي يعني المال، والذي يعني الدَّعة والراحة؛ تلك الأسماء السحرية التي تجذب جميع البشر إليها.

ولكن من كان يمكنه أن يتوقع أن السيدة سميثرز كانت تُحصي كعك الدونات المقلي كلما مَر أحدٌ عبْر خزانة مؤنها؟ كان هذا هو الظرف السخيف الوحيد الذي أغرق بيتر في حالته البائسة الحالية. ولولا ذلك، لربما كان يتناول غداءً مكوَّنًا من الخبز والرنجة المجفَّفة والشاي الخفيف في منزل زوجة صانع الأحذية، ولربما كان لا يزال منشغلًا بعمله في إثارة الفتن داخل الكنيسة الرسولية الأولى، المعروفة أيضًا باسم الرولرز المقدَّسة، وعزل القس جماليل لونك، وتعيين صانع الأحذية سميثرز في وظيفة القس، وبيتر جادج مساعدًا له.

دائمًا ما كان الحال على هذا المنوال طوال حياة بيتر التي تبلغ عشرين عامًا. فكم من مرة تمكَّن من تثبيت قبضته الضعيفة على سلَّم الرخاء، ثم يحدث شيءٌ ما — شيءٌ مؤسف مثل سرقة كعكة دونات مقلية — لتفلت قبضته ويسقط مجددًا في حفرة البؤس.

لذا ظل بيتر يمشي، بحزامه المشدود، وعينَيه الزرقاوَين الدائمتَي النظر هنا وهناك، باحثًا عن مكان لتناول وجبة. كانت ثمَّة وظائفُ متاحة، ولكنها كانت وظائفَ صعبة، وكان بيتر يريد وظيفةً سهلة. ثمَّة أناسٌ في هذا العالم يعيشون بفضل عضلاتهم، وآخرون يعيشون بفضل ذكائهم؛ كان بيتر ينتمي إلى الفئة الثانية؛ وفضَّل تفويت الكثير من الوجبات على الانحدار في السُّلَّم الاجتماعي.

نظر بيتر في وجوه كل من مَرُّوا به، مفتشًا عن بارقة أمل. بادلَه بعضهم النظر، ولكن لما لا يزيد على ثانية واحدة؛ فقد رأوا أمامهم رجلًا متواضع المظهر، وضئيل الحجم، ويعاني من سوء التغذية، وإحدى كتفَيه أعلى من الأخرى، ذا ذقَنٍ وفمٍ أعجفَين، وأسنانٍ معوجَّة، وشاربٍ بُني خفيف لم يستطع الحفاظ على كثافته نفسها عند ركنَيه. كانت قُبعة بيتر القشِّية تفتقد الكثير من القَش، وأصبحت بَدْلتُه البُنية المُستعمَلة مهترئة تمامًا من كثرة الاستخدام، وتآكَل نعل حذائه من الجانبَين. في مدينة كان الجميع فيها «يُهرعون»، الجميع حرفيًّا، أو كما يصوغون الأمر، «يسعَون»، لِمَ قد يُلقي أحد نظرةً ثانيةً على بيتر جادج؟ لِمَ قد يهتم أحد بالروح القلقة المختفية في داخله، أو يتخيل أن بيتر كان عبقريًّا من نوعٍ ما، بأسلوبه الغامض الخاص؟ لَم يهتم أحد؛ لَم يتخيل أحد.

كانت الساعة تشير إلى الثانية تقريبًا بعد ظُهر أحد أيام شهر يوليو، وكانت الشمس تلفَح شوارع المدينة الأمريكية. كانت الشوارع مزدحمة، ولاحظ بيتر الأعلام والزِّينة المنتشرة في كل مكان. وسمع مرةً أو مرتَين أصداء الموسيقى الآتية من بعيد وتساءل عما «يحدث». لم يكن بيتر يقرأ الصحف؛ فقد كان اهتمامه منصبًّا على الخلافات بين طائفة سميثرز وطائفة لونْك في الكنيسة الرسولية الأولى، المعروفة أيضًا باسم الرولرز المقدَّسة، ولم تكن الأحداث الكبرى التي تحدث في العالم الخارجي تهمُّه. كان بيتر يعرف دون يقين أنه على الجانب الآخر من العالم كانت نِصفُ دُزِّينة من الأمم العظيمة متشابكة معًا في نزاعٍ مميت؛ كانت الأرض كلها ترتَج بسبب صراعات تلك الأمم، وكان بيتر قد شعر ببعض الارتجاج من حين لآخر. ولكن بيتر لم يكن يعرف أن لبلاده أيَّ علاقة بهذا النزاع الأوروبي، ولم يكن يعرف أن بعض أصحاب المصالح الكبار في جميع أنحاء البلاد بذلوا جهدًا كبيرًا لحث الجمهور على التحرك.

وصلت هذه الحركة إلى المدينة الأمريكية، وغزت العروض الوطنية الشوارع. وعرضت جميع واجهات المتاجر لوحات تقول: «استيقظي يا أمريكا!» وعبْر الشارع الرئيسي الواسع كانت هناك راياتٌ تقول: «استَعدِّي يا أمريكا!» وفي الساحة التي تقع عند أحد طرفَي الشارع كان يتجمَّع جيشٌ صغير مكوَّن من قُدامى محاربي الحرب الأهلية المسنين، وقُدامى محاربي الحرب الإسبانية الذين كانوا في منتصف العمر، وأفواج من ميليشيات الولاية، وكتائب من مشاة البحرية والبحَّارة من السفن الراسية في الميناء، وأعضاء من الجمعيات الأخوية مع رؤسائهم العظماء الرئيسيين الكبار على صهواتِ خيولٍ مزيَّنة بأشرطةٍ ذهبية وريشٍ أبيضَ متمايل، وكانت جميع الشخصيات المعروفة في المدينة تستقل عربات، وكان العديد من الفرق تمشي بالخطوة العسكرية وعشرة آلاف علم ترفرف فوق رءوسهم. «استيقظي يا أمريكا!» وها هو ذا بيتر جادج، بمعدته الفارغة، يصادف فجأةً الحشود المزدحمة في الشارع الرئيسي، ولم تكن لديه أدنى فكرة عما يدور حوله الأمر.

ذَكَّرَ أحد تلك الحشود بيتر بشيءٍ ما. فطوال سبع سنوات من شبابه، كان مساعدًا لبيريكليس بريام، وطاف أنحاء أمريكا لبيع مسكِّن آلام بريام الذي لا يُضاهى؛ كانا يسافران في سيارة، وأينما صادفا مهرجانًا أو مؤتمرًا أو رحلة أو نزهة، كانا يشاركان، وكان بيريكليس بريام يتوقَّف في مكان حيث تكون الحشود أكثر كثافة، ويقرع جرس العشاء، ويقدم رسالته البليغة للإنسانية؛ لقد ظهر إكسير الحياة، ونُفي الألم من الأرض، وستنتهي جميع المتاعب الدنيوية هذه مقابل دولارٍ واحد للزجاجة التي تحتوي على أفيون بنسبة خمسة عشر بالمائة. وكانت وظيفة بيتر هي توزيع الزجاجات وجمع النقود؛ لذا، عندما رأى الحشود، بدأ ينظر حوله بشغف. فربما يرى بائعًا للاصقات مسمار القدم أو مزيلات بقع الحبر، أو رجلًا يلعب لعبة البطاقات الثلاث يمكن أن يعمل معه بيتر مقابل بعض المال الذي يكفي لشراء ما يسد به رمقه.

تسلَّل بيتر بين الحشود لمسافة حيَّين أو ثلاثة، ولكنه لم يرَ شيئًا واعدًا أكثر من بائعي الأعلام الأمريكية المرفوعة على عِصي صغيرة، والشارات الوطنية المكتوب عليها «استيقظي يا أمريكا!» ولكن سرعان ما رأى بيتر، على الجانب الآخر من الشارع عند أحد التقاطعات، رجلًا يقف على شاحنة يُلقي خطابًا، فتوغَّل بين الحشود، دافعًا الناس بكوعه، ومنزلقًا بينهم هنا وهناك، معتذرًا للجميع؛ حتى خرج أخيرًا من بين الحشود، ووقف على الطريق المفتوحة التي أُخلِيت من أجل الموكب، الطريق التي بدت وكأنه لا نهاية لها، المحاطة بجدرانٍ صُلبة من البشر، ورجال الشرطة بزِيهم الأزرق يدفعونهم إلى الخلف. بدأ بيتر يعدو عابرًا الطريق؛ وفي اللحظة نفسها جاءت نهاية العالم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤