القسم الثاني عشر

انتظَر بيتر حتى بعد أن خيَّم الظلام قبل أن يستسلم لحسه الرومانسي؛ كما أنه أطرى على نفسه بمدى أهميته عبْر النظر حوله بحذَر أثناء سيره في الشارع. لم يكن يعرف بالضبط من قد يكون في إثره، ولكن أراد بيتر أن يظل متخفيًا.

كما أنه كان يشعر ببعض القلق الحقيقي. فقد قال الحقيقة عندما أخبر جوفي بأنه لا يعرف ماذا يكون «الأحمر»، ولكنه بدأ في تقصِّي الأمر منذ ذلك الحين، وأصبح يعرف الآن. «الأحمر» هو الشخص الذي يتعاطف مع النقابات العمالية والإضرابات؛ الشخص الذي يريد قتل الأغنياء وتوزيع ممتلكاتهم، ويعتقد أن الطريقة الأسرع لتحقيق هذا التوزيع هي استخدام الديناميت. جميع «الحُمر» يصنعون القنابل، ويحملون أسلحةً مخفية، وربما سمومًا مخفية؛ من يمكنه أن يعرف؟ والآن كان بيتر يندَس بينهم، كان سيصبح واحدًا منهم! كان الأمر مثيرًا للغاية، لشخص كل هدفه في الحياة هو الراحة. سمع صوتًا يهمس في داخله قائلًا: «لِمَ لا تتخلى عن تلك المهمة؛ تخرج من المدينة وتنسى الأمر برمته؟» ولكنه تذكَّر المكافآت والأوسمة التي وعده بها جوفي. هذا بالإضافة إلى روح الفضول؛ قد يتخلى عن المهمة في أي وقت، ولكنه يريد أولًا أن يعرف المزيد عن كونه «مخبرًا سريًّا».

وصل إلى المبنى ذي الرقم الذي أُعطِيَ إياه. كان بيتًا صغيرًا من طابقٍ واحد في حيٍّ فقير، ودقَّ جرسَ الباب. فتحت له فتاة، ومن النظرة الأولى، أدرك بيتر أنها الفتاة التي تحدَّثت إليه. لم تنتظر أن يُعرِّفها بنفسه، بل صرخت فجأة: «السيد جادج! أوه، أنا سعيدةٌ للغاية بقدومك!» ثم أضافت: «أيها الرفيق!» كما لو كان بيتر صديقًا تعرفه حق المعرفة. ثم قالت: «ولكن هل أنت رفيق بالفعل؟»

سألها بيتر: «ماذا تعنين؟»

قالت الفتاة: «ألستَ اشتراكيًّا؟ لا بأس، سنجعلك واحدًا.» ثم أدخلته وأشارت له بالجلوس على كرسي وهي تقول: «أعرف ما فعلوه بك، ولقد صمَدتَ في مواجهتهم! أوه، لقد كنت رائعًا! رائعًا!»

لم يدرِ بيتر ماذا يقول. كان صوت الفتاة يحمل نبرة حب، بالإضافة إلى الإعجاب؛ ولم تكن حياة بيتر الصعبة تزخر بالكثير من الخبرات مع مشاعرَ من هذا النوع. كان بيتر يُشاهِد الانفعال والتحمس اللذَين يظهران على الفتيات اللاتي يبحثن عن الغزل، ولكنه شعر من فوره أن أسلوب هذه الفتاة لم يكن مغازلةً. كان صوتها، رغم نعومته، يحمل نبرة حزن لا تُناسِب فتاة في مثل عمرها، وكانت عيناها الرماديتان العميقتان الحزينتان مثبَّتتَين على بيتر وتطل منهما نظرةٌ قلقة من أم نجا ابنها من الموت للتو.

نادت قائلة: «سادي، لقد وصل السيد جادج.» ثم دخلت فتاةٌ أخرى أكبر سنًّا وأطول قامة، لكنها نحيلة وشاحبة مثل أختها. عرف بيتر أن اسمَيهما جيني وسادي تود؛ كانت الشقيقة الكبرى تعمل سكرتيرة، وهي التي تعُول العائلة. كان القلق الشديد باديًا على الفتاتَين. وبدأتا تسألان بيتر عما مرَّ به، لكنه لم يتحدث سوى لدقيقة أو دقيقتَين قبل أن تذهب الشقيقة الكبرى إلى الهاتف. كان ثمَّة العديد من الأشخاص الذين يجب أن يلتقوا بيتر على الفور، أشخاص مهمون كان يجب إبلاغهم بوصوله على الفور. أمضت بعضَ الوقت تتحدث عبْر الهاتف، ولا بد أن الأشخاص الذين تحدَّثت إليهم اتصلوا بآخرين؛ فعلى مدار الساعة أو الساعتَين التاليتَين، كان هناك تدفقٌ مستمرٌّ من الزوار، وكان على بيتر أن يروي قصته مرارًا وتكرارًا.

كان أول الزوار رجلًا عملاقًا ذا شفاهٍ قاسية وصوتٍ جَهْوري للغاية لدرجة أنه أخاف بيتر. لم يُفاجأ بيتر عندما عرف أن هذا الرجل زعيمُ إحدى أكثر النقابات العمالية الكبيرة في المدينة تطرفًا، البحَّارة. نعم، كان أحد «الحُمر» ولا شك؛ كان يتوافق مع ما تخيَّله بيتر؛ رجلًا متجهمًا وخطيرًا، يمكن تخيُّله في صورة شمشون يقبض على أعمدة المجتمع ويُسقِطها على رأسه. قال الرجل بعدما لاحظ إجابات بيتر المتردِّدة على أسئلته: «لقد أرعبوك أيها الصبي. لا بأس، لقد أرعبوني طوال خمسة وأربعين عامًا، لكني لم أدَعْهم يعرفون ذلك حتى الآن.» ومن أجل التخفيف عن بيتر وتقوية أعصابه، أخبره أنه بحَّارٌ هارب تعرَّض للملاحقة عبْر منطقة إيفرجليدز في فلوريدا بواسطة الكلاب البوليسية، ثم رُبِطَ إلى شجرة وضُرِبَ حتى فقد الوعي.

جاء من بعده ديفيد أندروز، الذي سمع بيتر أنه أحد المحامين في قضية جوبر، وكان رجلًا طويل القامة، ذا مظهرٍ أنيق، وملامحَ حادَّة تدل على الذكاء. ماذا يفعل رجلٌ على شاكلته بين هؤلاء المنبوذين؟ قرَّر بيتر أنه يجب أن يكون أحد الأذكياء الذين يكسبون المال من تحريض الساخطين. ثم جاءت فتاةٌ صغيرة، هزيلة وضعيفة، ولديها بعض الإعاقة. انهمرت الدموع على خدَّيها أثناء عبورها الغرفة لمصافحته، ووقف بيتر محرجًا، يتساءل عما إذا كانت قد فقدت أحد ذويها أخيرًا، وما عليه أن يقولَه لمواساتها. ولكنَّه استنتج من أوَّل كلماتها أنها كانت تَبْكي متأثرةً بقصَّته عن المعاناة التي مرَّ بها، الأمر الذي أثار دهشتَه بشدَّة.

كانت أدا روث شاعرة، وكانت هذه نوعيةً جديدة بالنسبة إلى بيتر؛ بعد الكثير من التفكير، اعتبرها واحدةً من الأغبياء في الحركة؛ طفلة صغيرة عاطفية، لا تملك أدنى فكرة عن الشر المحدق بها. جاء معها صبي ينتمي إلى جماعة الأصدقاء ذو وجهٍ شاحب تدُل ملامحه على الورع وخُصلات شعرٍ سوداء كان عليه أن يهزَّ رأسه كل فترة لإبعادها عن عينَيه؛ كان يرتدي ربطةَ عنق مربوطةً بعقدة وندسور، وقُبعةً سوداء من الصوف، وغيرها من الأشياء التي تدُل على غرابة الأطوار، ومن حديثه، استنتج بيتر أنه مستعد لتفجير جميع حكومات العالم من أجل أن يعُم السلام. انطبق الأمرُ نفسُه على ماكورميك، زعيم اتحاد العمال الصناعيين العالمي الذي خرج من السجن للتو بعد أن قضى فيه ستين يومًا، وكان شابًّا أيرلنديًّا صموتًا بشفتَين مزمومتَين وعينَين سوداوَين لا تكلَّان، غرسَ القلقَ في صدر بيتر بسبب مراقبته له عن كثب وعدم التفوه بأي كلمة تقريبًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤