القسم الثالث عشر

واصل الضيوف القدوم فُرادى أو في مجموعات؛ نساءٌ مسنات وشابات، رجالٌ مسنون وشباب، متعصِّبون وحالمون، محرِّضون لا يستطيعون فتح أفواههم دون أن تتسرَّب الكلمات الثورية منها كاشفةً عن نيران الحماسة المتأججة في أعماقهم. زاد قلق بيتر أكثر فأكثر؛ فقد أدرك أنه بين أخطر «الحُمر» في المدينة الأمريكية. هؤلاء هم مَن يخشاهم المواطنون الذين يحترمون القانون، وهؤلاء هم مَن تهتم بهم الشرطة أكثر من جميع اللصوص وقطَّاع الطرق العاديين. أدرك بيتر السبب في ذلك الآن؛ فلم يكن يتخيل أن في العالم أشخاصًا غاضبين أعمتْهم الكراهية لهذه الدرجة. ومثل هؤلاء قد يُقْدِمون على فعل أي شيء! ظل جالسًا ينقل بصره من وجه إلى آخر. مَن مِن هؤلاء الحاضرين ساعَد في تفجير القنبلة؟ وهل سيتفاخر بهذه الفعلة هذا المساء؟

كان بيتر نوعًا ما يتوقع ذلك، ولكنه عاد يتشكَّك فيه. كانوا مجرمين غريبي الأطوار! كانوا يُطلِقون عليه لقب «الرفيق»، وكانوا يتحدثون بنفس العاطفة التي أربكته عندما تحدثت بها الصغيرة جيني. هل كانت تلك مجرد خدعة لكسب ثقته، أم أن هؤلاء الناس يظنون حقًّا أنهم يُحبونه هو، بيتر جادج، الغريب والعدو السري؟ كان بيتر يبذل جهدًا كبيرًا لخداعهم، لكن بدا له أنه من السهل خداعهم لدرجة أنه لم يكن بحاجة إلى اكل هذا الجهد. وكان يحتقرهم لهذا السبب، وطوال الوقت الذي قضاه في الاستماع لهم كان يقول لنفسه: «يا للمجانين المساكين!»

كانوا قد أتَوا لسماع قصته، وأمطَروه بالأسئلة، وجعلوه يروي جميع التفاصيل مرارًا وتكرارًا. وكانت تعليمات بيتر واضحة تمامًا؛ لم يكن من المفترض عليه أن يذكُر الاعتراف المفصَّل الذي أُجبِرَ على توقيعه؛ فهو بذلك يضع سلاحًا خطيرًا للغاية في يد أعداء القانون والنظام هؤلاء. كان عليه أن يرويَ قصةً قصيرة قَدْر الإمكان عن الصُّدفة التي وضعته بالقرب من موقع الانفجار، وكيف حاولت الشرطة إجباره على الاعتراف بأنه يعرف شيئًا عن القضية. قصَّ بيتر تلك القصة القصيرة، كما أُمِر؛ لكنه لم يكن مستعدًّا للتحقيق الدقيق الذي تعرَّض له من قِبل أندروز، المحامي، بمساعدة العجوز جون دوراند، قائد البحارة. كانا يريدان معرفة كل ما حدث له، ومن فعلَه، وكيف ومتى وأين ولماذا. كان بيتر يمتلك حسًّا تمثيليًّا، وكان يستمتع بكونه مركزَ الاهتمام والإعجاب، حتى إن كان ذلك في غرفة مليئة «بالحُمر» المجرمين. فأخبرهم بجميع التفاصيل البارزة المتعلِّقة بلَيِّ جوفي لمعصمه وحبسه في زنزانة، والألم الشديد الذي لا يزال يشعُر به وكأنه قد حدث له للتو، وقصَّ القصة بواقعية كان من شأنها أن تهيجَ مشاعر مجموعةٍ أكثر تبلدًا في المشاعر من تلك المجموعة.

لم يمُر وقتٌ طويل حتى دخلت كل هذه النساء في نوبة من البكاء والغضب. وحضَر الإلهام أدا روث الصغيرة فبدأت تُلقي قصيدةً على أسماعهم؛ أم أنها كانت تنظمها هنا، أمام عينَيه؟ بدت وكأن الاستياء يُلهِمها. كانت القصيدة تتحدث عن انتفاضة العمال … ثورة الجماهير …

«صبرتُ على عدوٍّ لا يبالي فغُضَّ الطرف، أو ذُق من وَبَالي!»

فكَّر بيتر وهو يستمع إلى القصيدة، «يا للمجنونة المسكينة!» ثم أخذ دونالد جوردون، الصبي من جماعة الأصدقاء، الكلمة، وبدأ يهزُّ خُصلات شعره الطويلة السوداء، وبدا أنه يرتجل خطابًا. فكَّر بيتر مجددًا وهو يستمع إلى الخطاب، «يا للمجنون المسكين!» ثم كشف رجلٌ آخر، محرر إحدى الصحف العمالية، عن حقيقة تأليفه لمقالةٍ افتتاحية؛ فقد كان يعرف جوفي، وكان سينشُر صورته ويصفه بأنه «محقِّق من عصر محاكم التفتيش.» وطلب من بيتر أن يلتقط صورته، فوافق بيتر، وأن يُعنوِن الصورة بعنوان «ضحية محقق محاكم التفتيش.» لم يكن بيتر يملك أدنى فكرة عما تعنيه العبارة؛ لكنه وافق، وفكَّر مرةً أخرى، «يا للمجنون المسكين!» كانوا جميعًا في نظره «مجانين» يتقبلون مشاكل الآخرين بمثل هذا الحماس!

ولكن بيتر كان خائفًا أيضًا؛ لم يستطع الاستمتاع بكونه بطلًا على الإطلاق، ليس بهذه الطريقة الحيوية المدهشة، وقد انتشر اسمُه وشهرتُه في طول البلاد وعرضها، حتى يعرف العمالُ التابعون للمنظمات الأساليبَ التي تستخدمها المشروعات الربحية الكبرى في المدينة الأمريكية لإرسال قائدٍ عمالي معروف إلى المشنقة! بدا أن الأمر يتفاقم أكثر فأكثر أمام عينَي بيتر المرتعبتَين. شعر بيتر، النملة، بالأرض تهتز تحت قدمَيه، وانتبه فجأة للعملاقَين الضخَمين بحجم جبلَين اللذَين كانا يدوسان على رأسه أثناء قتالهما. تساءل بيتر، هل أدرك جوفي الضجَّة الكبيرة التي ستُثيرها قصته، وأنه كان يضع في أيدي أعدائه سلاحًا قويًّا؟ ماذا كان يتوقع جوفي أن يحصل من بيتر مقابل التعويض عن الضرر الذي لحق بقضيَّته؟ وبينما كان بيتر يستمع إلى الخطابات العاصفة التي تُلقى في الغرفة الصغيرة المزدحمة، وجد نفسه يفكِّر مرارًا وتكرارًا في الهرب. لم يكن قد رأى خلال حياته مثل ذلك الغضب الذي يشحن به هؤلاء الناس أنفسهم، الأشياء الرهيبة التي قالوها، الإدانات، ليس لشرطة المدينة الأمريكية فحسب، بل أيضًا للمحاكم والصحف، الكنائس والكليات، وجميع رموز الاحترام والقدسية من وجهة نظر المواطنين المنصاعين للقانون مثل بيتر جادج نفسه.

أصبح خوف بيتر واضحًا. ولكن لِمَ لا يكون خائفًا؟ عرَض عليه أندروز، المحامي، أن يأخذَه إلى مكان بعيد ويُخفيَه، تحسبًا لمحاولة أعدائهم أن يتخلصوا منه. سيكون بيتر أهمَّ شهود هيئة الدفاع عن جوبر، وعليهم أن يعتنوا به جيدًا. لكن بيتر استعاد رباطة جأشه وتقبَّل دوره النبيل. لا، سيُجرب حظوظه مع بقيتهم؛ فلم يكن خائفًا لهذه الدرجة.

كافأته سادي تود، كاتبة الاختزال، على بطولته. كانت ثمَّة غرفة نوم احتياطية في منزلهما الصغير، وإذا أراد بيتر البقاء معهما لبعض الوقت، فستَسهران على راحته. قبِل بيتر دعوتها، وانفَض التجمع في ساعةٍ متأخرة من الليل. وذهبت كلٌّ من مجموعات «الحُمر» المختلفة في حال سبيلها بأيدٍ مضمومة ووجوه تعبِّر عن عزم لا يلين على تحويل قصة بيتر إلى وسيلة لإثارة العمال المستائين وإدخالهم في نوباتٍ جديدة من الحماسة. أمسك الرجال بيد بيتر بوُد، ونظرت السيدات إليه بأعينٍ مليئة بالعطف، وهمَسْن له بكلمات تعبِّر عن إعجابهن بمسيرته الشجاعة، وأملهن، بل قناعتهن، في أنه سيُناصِر الحقيقة حتى النهاية، وأنه سيدرُس أفكارهن وينضَم إلى «حركتهن». طوال تلك الفترة كان بيتر يراقبهم ويستمر في القول لنفسه: «يا للمجانين المساكين!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤