القسم الرابع عشر
لم تُضَيِّع الصحف المحترمة في المدينة الأمريكية، بالطبع، أي مساحة في مطبوعاتها على الاتهامات الوهمية التي قدَّمها المتطرفون عن تعذيب السلطات الشرطية للشهود. لكن كانت ثمَّة جريدةٌ اشتراكية تصدُر كل أسبوع في المدينة الأمريكية، ونشرت هذه الجريدة موضوعًا طويلًا عن التجربة التي مرَّ بها بيتر في صفحتها الأولى إلى جانب صورته. كما نشرت ثلاث صحفٍ عمالية القصة، وأعدَّت لجنة الدفاع عن جوبر منشورًا يتحدث عن القصة وأرسلت آلاف النسخ منه إلى جميع أنحاء البلاد. كان هذا المنشور بقلم دونالد جوردون، الصبي التابع لجماعة الأصدقاء. أحضر دونالد لبيتر نسخةً منه ليتأكد من أنه ذكَر جميع التفاصيل بشكلٍ صحيح، وقرأ بيتر المنشور، ولم يستطع منع نفسه من الشعور بالانفعال عندما اكتشَف أنه بطل. لم يقُل بيتر شيئًا عما كان يفعل قبل ذلك، واختار أعضاءُ لجنة الدفاع عن جوبر الذين عرفوا تلك التفاصيل التزامَ الصمت الدبلوماسي. ابتسم بيتر في نفسه عندما واتتْه تلك الفكرة. يا لهم من ماكرين، هؤلاء الناس! كانوا يمارسون لعبتهم ببراعةٍ تامة، وأُعْجِب بهم بيتر لهذا السبب. في المنشور الذي كتَبه دونالد جوردون، صوَّر بيتر عاملًا فقيرًا؛ وابتسَم بيتر. كان معتادًا على كلمة «العمل»، ولكن عندما كان يتحدَّث عن «العمال»، كان يعني شيئًا مختلفًا عما يعنيه هؤلاء الاشتراكيون.
انتشرت القصة، وأراد كثيرون، بلا شك، لقاء بيتر وحضَروا إلى منزل الأختَين تود. لذا، بدأ بيتر يؤدي وظيفته بأن يعرف كل ما يمكن أن يعرفه عن هؤلاء الزوار، أسماءهم ومهنهم، وعلاقاتهم بالحركة الراديكالية. كان جوفي قد نصَحه بألَّا يُدوِّن أي ملاحظات خوفًا من فضْح أمره، ولكن لم يستطع بيتر حفظ كل هذه المعلومات في ذاكرته؛ لذا، كان يعتكف في غرفته ويُدوِّن ملاحظاتٍ مفصلة على قصاصاتٍ صغيرة من الورق، ويَخيطها بعناية في بطانة معطفه شاعرًا بإثارة من يُخفي سرًّا.
فيما عدا تدوين الملاحظات، كان عمل بيتر الجاسوسي سهلًا؛ فقد كان يبدو أن جميع هؤلاء الناس حريصون على البَوْح بما يفعلون؛ كان هذا يُخيف بيتر في بعض الأحيان؛ فقد كانوا منفتحين ومتحَدِّين لأبعد حد! لم يكونوا يُفصِحون عن أفكارهم بعضهم لبعض وله فحسب، بل كانوا يُفصِحون عنها أيضًا على المنصات العامة، وفي منشوراتهم سواء كانت كُتيبات أو نشرات … ما يطلقون عليه اسم «الأدب». لم يكن بيتر يعلم أن «حركتهم» واسعة الانتشار أو قوية لهذا الحد. كان يتوقع أن يكشف عن مؤامرة سرية، وربما قنبلة ديناميت أو اثنتَين، ولكن يبدو أنه كان يكشف عن بركان!
على أي حال، فعل بيتر أفضل ما في وسعه. فقد حصل على أسماء وتفاصيل حوالَي أربعين أو خمسين شخصًا من جميع الطبقات؛ عمال مجهولين من الرجال والنساء، وخياطين يهود، وعمال روس وإيطاليين يعملون في صناعة السيجار، ومشغلي آلات ومطابع أمريكيي المولد، بالإضافة إلى بعض «الحُمْر الأرستقراطيين»؛ نساء ضخام، أنيقات لامعات جئن يتدحرجن إلى المنزل الصغير في سياراتٍ ضخمة، وأنيقة، ولامعة، وسائقوهن في أزيائهم الرسمية في الخارج ينتظرونهن لساعاتٍ طوال، بينما يستمعن هن إلى قصة بيتر عن «المعاملة القاسية» التي تعرَّض لها. خطر في بال سيدة كريمة ترتدي عباءةً رمادية طويلة، وتفوح منها رائحةٌ عطرة عبقت الغرفة، أن بيتر قد يكون في حاجة إلى المال، فوضعت ورقة نقد بقيمة عشرين دولارًا في يده. كان بيتر متحمسًا، ولكنه كان متحيرًا أيضًا، عندما أدرك العجائب الجديدة لذلك الشيء الذي يُسمى «الحركة»، فقرر أنه قد يصبح من «الحُمر» لبعض الوقت بعدما يفرغ جوفي منه.
أثناء ذلك، ارتاح بيتر للإقامة مع الأختَين تود. كانت سادي تذهب إلى عملها قبل الثامنة صباح كل يوم، قبل حتى أن يستيقظ بيتر؛ ولكن كانت جيني تبقى في المنزل، وتُعِد فطوره، وتفتَح الباب لزواره، وكانت تؤدي دور المُضَيِّفة بشكلٍ عام. تأكَّد أمر مرضها؛ فقد كانت تذهب مرتَين أسبوعيًّا إلى الطبيب ليفعل شيئًا ما لعمودها الفِقري، وكان من المفتَرض أن ترتاح في الفراش بقية الوقت، ولكن نادرًا ما رآها بيتر تفعل ذلك. كانت دائمًا ما تكتب منشورات، أو تكتب خطابات لصالح «القضية»، أو تخرج لبيع الكتب وجمع التبرُّعات في الاجتماعات. عندما لا تكون مشغولة بعملٍ ما، كانت تتجادل مع شخصٍ ما — غالبًا مع بيتر — في محاولةٍ منها لجعله يفكر بأسلوب تفكيرها نفسه.
يا للصغيرة المسكينة، كانت شديدة التأثر بالأفكار التي اعتنقتها عن ظلم الطبقات العاملة. لم تمنح نفسها وقتًا ترتاح فيه من تلك الأفكار، ليلًا أو نهارًا، وهذا كان مزعجًا لبيتر، بالطبع؛ لأنه كان يرغب في الهدوء أكثر من أي شيءٍ آخر. ففي ربوع أوروبا، كان الملايين من الرجال يُنَظَّمون في جيوش، وينخرطون في قتل بعضهم بعضًا. هذا كان أمرًا مروِّعًا للغاية ولا شك، ولكن ما الفائدة المرجوَّة من التفكير فيه؟ لم تكن ثمَّة طريقة لإيقافه، ولم يكن ذلك خطأً اقترفه بيتر بالتأكيد. ولكن كانت هذه الطفلة المسكينة المضلَّلة تتصرف طوال الوقت وكأنها المسئولة عن هذا الصراع الدائر في أوروبا وكأنها هي المكلَّفة بمهمة إنهائه. فكانت الدموع تنهمر من عينَيها الرماديتَين العميقتَين، وكان ذقَنها الناعم يرتجف من الألم كلما تحدثت عنه؛ وبدا لبيتر أنها تتحدَّث عنه طوال الوقت. كانت فكرتها أن الحرب لا بد أن تُوقَف عبْر انتفاضات يُجريها عمال أوروبا. ويبدو أنها كانت تظن أنه يمكن تسريع هذا الأمر إذا ما انتفض عمال المدينة الأمريكية وضربوا مثالًا لأقرانهم في أوروبا!