القسم الخامس عشر
كانت جيني تتحدث عن هذه الخطة علنًا؛ كانت تضع شريطًا أحمر في شعرها، وتثبِّت شارةً حمراء على صدرها، وتذهب إلى أماكن التجمعات وتبيع كتيباتٍ صغيرة ذات أغلفةٍ حمراء. لذا، كان من واجب بيتر، بالطبع، أن يبلغ عنها رئيسَ جهاز الأمن السري لشركة تراكشن تراست. ندم بيتر على هذه الفعلة وكان يشعر بالعار من اضطراره لفعلها؛ فقد كانت فتاةً صغيرة لطيفة، وجميلة أيضًا، وصديقة ربما كان سيستمتع بقضاء وقته معها لو لم تكن في تلك الحالة الهستيرية الدائمة. كان يجلس ويراقبها وهي تجلس مُنكبَّة على آلتها الكاتبة. كان شعرها ناعمًا وأزغبَ في لون الغَسَق، وكانت أسنانها بيضاء، وكانت حُمرةٌ خفيفة تظهر وتختفي في خدَّيها؛ نعم، ليست قبيحةً مطلقًا؛ كل ما عليها فعله هو أن ترفع رأسها وتنفق بعض الوقت على تحسين مظهرها، كما تفعل الفتيات الأخريات.
ولكن لا، كانت دائمًا في حالة توتر، والأدهى أنها كانت تُحاول أن تُدخِل بيتر في الحالة نفسها. كانت عاقدة العزم على أن بيتر يجب أن يتأثَّر بالظلم الواقع على الطبقات العاملة. وكانت ترى أن وصولَه إلى حالة التأثر تلك أمرٌ مسلَّم به، بعدما يتعلم كيفية فعل ذلك. كانت تروي له قصصًا مروِّعة، وكان واجبه أن يبدوَ مرتاعًا بحق؛ كان يجب أن يتصرف دائمًا بشكلٍ عاطفي. كانت تعطيه بعضًا من «أدبها» ليقرأه، ثم كانت تمنعه عن الحركة وتتأكد من أنه قد قرأه. كان يعرف القراءة؛ كان بيريكليس بريام هو مَن علَّمه القراءة؛ لأنه أراد منه أن يشرف على طباعة منشوراته وإعلاناته في صحف القرى التي كان يسافر إليها. لذا، كان بيتر محاصرًا حاليًّا في أحد أركان الغرفة مجبَرًا على تركيز انتباهه على «مبادئ الاشتراكية»، أو «الرأسمالية والبروليتاريا»، أو «الطريق نحو السلطة».
قال بيتر لنفسه إن جمع هذه المعلومات جزءٌ من مهمَّته. كان سينتمي إلى «الحُمْر»، وعليه أن يتعلم لغتهم؛ ولكنه وجدَها متعِبة للغاية؛ فقد كانت مليئةً بالمصطلحات المتخصِّصة الطويلة التي لم يسمعها من قبل. لمَ لا يتحدَّثون باللهجة الأمريكية العادية على الأقل؟ كان يعلم أن من بينهم اشتراكيين، وكذلك «فوضاويين»، كما كان يدعوهم، وكان يراهم جميعهم متشابهين. لكنه تعلَّم الآن، ليس عن الاشتراكيين و«الفوضاويين» فقط، بل أيضًا عن اشتراكيي الدولة، والشيوعيين الفوضويين، والشيوعيين النقابيين، والفوضويين النقابيين، والاشتراكيين النقابيين، والاشتراكيين الإصلاحيين، والاشتراكيين النقابيين، ناهيك عن دعاة الضريبة الموحَّدة الواحدة، والليبراليين، والتقدميين، والعديد من أصحاب التوجُّهات الأخرى الذين كان مضطرًّا للقائهم، وتصنيفهم، والاستماع إليهم باحترام وتعاطف. كان كل فصيلٍ منهم مُصِرًّا على الفروق التي تجعله مختلفًا عن الباقين، كما أصَر كلٌّ منهم على أنه يملك الحقيقة الدامغة؛ ومَلَّ بيتر من أحاديثهم التي لا تنتهي؛ كان من الأسهل جمعُهم جميعًا معًا، كما فعل جوفري وماكجيفني، ووصفهم جميعًا بجماعة «الحُمر!»
فهم بيتر بوضوح أن ما يريده هؤلاء «الحُمْر» هو توزيع ممتلكات الأغنياء. كان هذا هو انطباع كُلِّ مَن سأله عنهم. لكنه أصبح يعرف الآن أن الأمر ليس كذلك بالضبط. كان ما يريدونه هو أن تفرض الدولة هيمنتَها على الصناعات، أو أن تفعلَ النقابات العمالية ذلك، أو أن يدَعوا العمال بشكلٍ عام يفعلون ذلك. كانوا يشيرون إلى البريد، والجيش، والبحرية؛ كأمثلة على قدرة إدارة الدولة للأمور. كانت جيني تسأل، ألا تعتقد أنه هدفٌ جيد؟ فكان بيتر يجيبها، نعم، إنه جيد؛ ولكن كان ثمَّة صوتٌ في نفس بيتر يهمس طوال الوقت بأنه لن يكون ثمَّة فرقٌ على الإطلاق. كان يُولد شخصٌ ساذج كل دقيقة، ويجدر بك أن تثق في أنه أيًّا كانت طريقة ترتيبهم للأمور، فسيظل هناك دائمًا أشخاص يرون أنه من الأسهل العيش على ما يبذل الآخرون من جهد. هذه الفتاة المسكينة، على سبيل المثال، كانت مستعدةً لإلقاء نفسها في التهلكة في سبيل أي فكرة غبية، أو في سبيل أي شخصٍ يظهر ويروي لها قصةً حزينة؛ هل سيصل هذا المجتمع إلى حالةٍ لا يراها فيها الرجال لقمةً سائغةً يسهُل التهامها؟
كانت جيني تبقى وحدها في المنزل طوال اليوم مع بيتر، وكانت تزداد جمالًا في عينَيه كلما تعرَّف عليها أكثر. كما بدا أنها تزداد إعجابًا ببيتر كلما مَثَّل بيتر دوره كما ينبغي. فقد تظاهر بيتر بأنه شخصٌ يتعاطف من أعماق قلبه، وأنه قد تحوَّل بسرعة لمناصرة القضية؛ وكان يفهم كل ما تشرحُه له جيني، كان يرتاع من القصص المروِّعة، وكان على استعداد لمساعدتها في إنهاء الحرب الأوروبية عبْر إشعال ثورة بين صفوف العمال في المدينة الأمريكية. كما حادثَها عن نفسه، وأيقَظ تعاطفها مع حياته القاسية، والعشرين عامًا التي قضاها في الحرمان والعبودية؛ وعندما أبكتها قصته، أحب بيتر ذلك. فقد تملكه شعورٌ رائع عندما جعلها تشعر بالأسي الشديد عليه؛ وساعد ذلك في تعويضه عن الملل الذي ينتابه من سماعها تتأسَّى على الطبقة العاملة بأكملها.
لم يعرف بيتر إن كانت جيني قد عرفت بأمر ماضيه الإجرامي، ولكنه لم يرغب في ترك شيءٍ للصدفة؛ فأخبرها بكل شيء، وتفادى الأذى الذي قد يطاله من هذه الجهة. كان قد وقع أسيرًا للشر بالفعل، ولكن لم يكن ذلك ذنبه؛ فلم يكن هناك من يوجِّهه إلى وجهةٍ أفضل، كان ضحيةً للظروف يستحق الشفقة. قصَّ عليها قصة تجويعه، وتعنيفه، وضربه من قِبل «العجوز» دراب، فاغرورقت عينا جيني الرماديتان بالدموع وسالت على وجنتَيها. حادثَها عن وحدته، وحزنه، وبؤسه في دار الأيتام. وعن إدراكه، هو الصبي المسكين، أنه كان من الخطأ أن يساعد بيريكليس بريام في بيع مسكِّن الآلام الذي لا مثيل له؟ كيف كان باستطاعته أن يعرف إذا ما كان الدواء مفيدًا أم لا؟ لم يعرف ذلك حتى الآن في الواقع. أما بالنسبة إلى معبد جيمجامبو، فكل ما كان بيتر يفعله هو غسل الأطباق والعمل كعبد مطبخ، كما هو الحال في أي فندق أو مطعم.
كانت قصةً من السهل تأليفها وترتيبها، وما زادها سهولةً أن المادة الأولى في عقيدة جيني الاشتراكية تنص على أن الظروف الاقتصادية هي المسئولة عن ضعف النفس البشرية. فتحت هذه العقيدةُ البابَ أمام جميع أنواع المحتالين، وجعلت الفتاة سهلة المنال لدرجة أن بيتر كان سيخجل من جعلها ضحية، لولا أنها كانت تقف في طريق أهدافه الأعلى؛ كما أنها كانت شابة، في السابعة عشرة من عمرها فحسب، ذات عينَين رماديتَين رقيقتَين، وشفتَين عذبتَين مُغريتَين، وكانت تبقى وحدها في المنزل طوال اليوم.