القسم الثامن عشر

ظل بيتر مستيقظًا قسمًا كبيرًا من الليل يفكر في مهمته الجديدة … أن يدخل في علاقة حُب مع فتاة. وأدرك أن حُب الصغيرة جيني كان ينمو في قلبه منذ فترة، ولكنه أراد أن يكون عقلانيًّا وعمليًّا؛ أراد أن يستخدم عقله في اختيار فتاة. كان يسعى للحصول على معلومات، أولًا وقبل كل شيء. ومَن يملك أكبر كم من المعلومات ليمنحها له؟ فكَّر في الآنسة نيبينز سكرتيرة أندروز المحامي؛ فلا شك في أنها تعرف أسرارًا أكثر من أي شخصٍ آخر؛ ولكن كانت السيدة نيبينز عانسًا ترتدي نظارات وحذاءً عريضَ المقدمة، وكان من المُستبعَد أن تدخل في علاقة حب. ثم فكَّر في الآنسة ستانديش، وكانت امرأةً جميلةً شقراءَ طويلة القامة تعمل في مكتب تأمين وتنتمي إلى الحزب الاشتراكي. كانت امرأةً «أنيقة»، وكان بيتر سعيدًا بالحصول على امرأة مثلها ليتفاخر بها أمام ماكجيفني وبقية رجال جوفي، ولكن لم يتمكن بيتر من تخيُّل نفسه يقنع السيدة ستانديش بالنظر إليه من دون أن يتخلى عن كرامته. وكانت أمامه أيضًا الآنسة يانكوفيتش، واحدة من الحُمْر الحقيقيين، والتي تدرَّبت في اتحاد العمال الصناعيين العالمي، لكنها كانت يهوديةً ذات عينَين سوداوَين حادتَين تدلان على عصبيَّتها، وكانتا تُخيفان بيتر. كذلك، كان لديه شك في أنها مهتمة بماكورميك، ولكن لا يمكنك أن تخمِّن ما قد يحدث مع هؤلاء «العشاق الأحرار».

ولكن كان بيتر واثقًا من فتاةٍ واحدة بصورةٍ تامة، وهي الصغيرة جيني؛ لم يكن يعرف إذا كانت جيني تعرف الكثير من الأسرار، ولكن لا شك في أنها قادرة على كشف بعضها من أجله. بمجرد أن يجعلها فتاته، سيُمكنه استخدامها في استجواب الآخرين. ومن ثَم، بدأ بيتر يتخيل كيف ستكون علاقة الحب بينه وبين جيني. لم تكن ما قد تُسمِّيه «أنيقة»، ولكن كان ثمَّة شيءٌ ما يتعلق بها ويجعله واثقًا من أنه لا يحتاج إلى الشعور بالخجل منها. سيظهر جمالها مع بعض الملابس الجديدة، وكان سلوكها راقيًا؛ لم يظهر عليها أدنى رهبةٍ من السيدات الثريات اللاتي كن يحضرن إلى المنزل في سياراتهن؛ كما أنها كانت تعرف الكثير بالنسبة إلى فتاة في عمرها … رغم أن أغلب ما تعرفه لم يكن صحيحًا!

لم يضيِّع بيتر وقتًا للاستعداد لمهمته الجديدة. في صحف الصباح التالي، نُشِرت التفاصيل المعتادة عن مقاطعة فلاندرز؛ كان آلاف الرجال يُمَزَّقون إرْبًا كل ساعة سواء ليلًا أو نهارًا، وعلِّق مليون رجل من كل جانب في قتالٍ محموم استمر لأسابيع، وقد يستمر لأشهرٍ أخرى. وكانت جيني الصغيرة العاطفية تجلس مكانها دون حَراك وعيناها مُغرورقتان بالدموع، تتحدث عما يحدث بينما يأكل بيتر الشوفان والحليب المنزوع الدسم. تحدَّث بيتر أيضًا عما يحدُث، وعن مدى قسوته، وأنه يجب عليهما أن يُوقِفاه، هو وجيني معًا. أصبح يُوافِقها الرأي حاليًّا؛ فقد أصبح اشتراكيًّا، ودعاها بلقب «رفيقة»، وأخبرها بأنها حوَّلته إلى الاشتراكية. فأشرقت عيناها فرحًا كما لو أنها فعلت شيئًا لإنهاء الحرب بالفعل.

كانا يجلسان على أريكة، يقرآن الجريدة، وكانا وحدهما في المنزل. رفع بيتر عينَيه فجأةً عن الموضع الذي يقرؤه وقال بحرجٍ شديد: «ولكن أيتها الرفيقة جيني …»

فقالت ناظرةً إليه بعينَيها الرماديتَين الصريحتَين: «نعم.» كان بيتر يشعر بالخجل، وبالخوف إلى حدٍّ ما؛ فقد كان هذا النوع من أعمال المحققين جديدًا بالنسبة إليه.

قال: «أيتها الرفيقة جيني، أنا … أنا … لا أعرف كيف أقولها بالضبط، لكني أخشى أنني بدأتُ أقع في الحب.»

سحبت جيني يدَيها بعيدًا عنه، وسمع بيتر أنفاسها تتلاحق، وهي تصيح قائلة: «سيد جادج!»

تلعثم بيتر قائلًا: «أنا … لا أعرف … آمل ألا تمانعي.»

صاحت: «أوه، لا تضَعنا في هذا الموقف!»

قال بيتر: «ولمَ لا، أيتها الرفيقة جيني؟»، ثم أضاف: «لا أعرف إن كنتُ قادرًا على كبح مشاعري.»

«أوه، كنا نقضي وقتًا سعيدًا معًا يا سيد جادج! ظننتُ أننا سنعمل معًا من أجل تحقيق مسعانا!»

«بالطبع، لن يتداخل حُبنا مع مسعانا …»

«أوه، بل سيفعل، سيفعل؛ إنه يجعل الناس تعساء!»

تهدج صوت بيتر وهو يقول: «إذن … إذن، أنتِ لا تهتمين لأمري على الإطلاق، أيتها الرفيقة جيني؟»

تردَّدت للحظة، ثم قالت: «لا أعرف، لم أفكر في الأمر …»

قفز قلب بيتر في صدره. كانت تلك هي المرة الأولى على الإطلاق التي تتردَّد فيها فتاة في الإجابة عن هذا السؤال لبيتر. شجَّعه شيءٌ ما … كما لو كان يعمل في «التجسس» طوال حياته. فمد يدَه، وأمسك يدها بلطفٍ شديد، وقال هامسًا: «هل تهتمين لأمري ولو قليلًا؟»

أجابته قائلةً: «أوه، أيها الرفيق جادج،» فقال بيتر: «ادعيني باسم «بيتر». أرجوكِ، فلتفعلي أرجوك.»

قالت: «أيها الرفيق بيتر.» وتهدَّج صوتها قليلًا، ونظر بيتر نحوها، ورأى أنها خفضت عينَيها نحو الأرض.

قال معترفًا: «أعرف أنني لستُ جديرًا بحبكِ. فأنا فقير ونكرة … ولست وسيمًا …»

صاحت قائلة: «أوه، الأمر ليس كذلك! أوه، لا، لا! لماذا تُجبرني على التفكير في مثل هذه الأمور؟ أنت أحد رفاقي!»

كان بيتر يعرف، بالطبع، كيف ستكون ردَّة فعلها على ما يُقال، فقال في حزن: «لم يحبَّني أحدٌ من قبل، ولن يهتم لأمركَ أحد عندما تكون فقيرًا، ولا تملك شيئًا لتُقدِّمه …»

فقالت في إصرار: «أقول لك إن الأمر ليس كذلك! أرجوك لا تفكر بهذه الطريقة! أنت بطل، وقدَّمتَ تضحيات من أجل القضية، وسوف تتقدم أكثر وتصبح قائدًا».

قال بيتر في تواضع: «آمل ذلك، ولكن، ما الأمر، أيتها الرفيقة جيني؟ لماذا لا تهتمين لأمري؟»

رفعت بصرها نحوه، والتقت عيونهما، وقالت بصوتٍ متهدج: «أنا لستُ بصحةٍ جيدة، أيها الرفيق بيتر. أنا عديمة الفائدة، وسأكون ظالمةً إن تزوَّجت.»

في مكانٍ ما في أعماق بيتر حيث تربض ذاته الداخلية، شعر وكأنه قد سُكب عليه ماءٌ بارد كالثلج فجأةً. «الزواج!» من قال أي شيء عن الزواج؟ وجاءت ردة فعل بيتر مناسبةً للعبارة الشائعة في مجلات القصص المصوَّرة: «هذا مفاجئ للغاية!»

ولكن بيتر كان ذكيًّا، فلم يكشف عن صدمته، وابتسم للصغيرة جيني، قائلًا: «ليس علينا أن نتزوَّج على الفور. يمكنني أن أنتظر ما دمتُ عرفتُ أنك تهتمين لأمري؛ وذات يوم، عندما تتحسَّن صحتكِ …»

هزَّت رأسها في حزن، وقالت: «أخشى أن صحتي لن تتحسَّن أبدًا. هذا بالإضافة إلى أن كلينا لا يملك أي أموال، أيها الرفيق بيتر.»

فهم بيتر الأمر، هذا ما في الأمر! المال، دائمًا المال! هذا «العشق الحر» ليس سوى حُلم.

قال بيتر، تمامًا مثلما قد يفعل أي متقدم للخطبة متواضع وتقليدي: «يمكنني أن أحصل على وظيفة.»

عارضته الفتاة قائلة: «لكنك لن تتمكن من كسب ما يكفي لنا نحن الاثنين،» ثم قفزت فجأةً، وقالت: «أوه، أيها الرفيق بيتر، لا يجدُر بنا أن يقع أحدنا في حب الآخر! لا يجدر بنا أن نجعل حياتَنا تعيسة، دعنا نعمل من أجل تحقيق مسعانا! عِدني أنك ستفعل ذلك!»

وعدَها بيتر، ولكن لم يكن لديه أي نية للوفاء بهذا الوعد بالطبع، فهو لم يكن محققًا فحسب، بل كان رجلًا أيضًا؛ وكان يريد الرفيقة جيني بكلتا صفتَيه. كان لديه بقية اليوم، وأثناء مهمة كتابة العناوين على أظرف الخطابات التي أدَّاها معها، كان يرمقُها من وقتٍ لآخر بنظرات حب؛ وأصبحت جيني تعرف الآن ماذا تعني هذه النظرات، وكانت حُمرةٌ خفيفة تتسلل على خدَّيها وتنزل إلى عنقها ورقبتها. كانت تشع بجمالٍ أخاذ للغاية وهي تقع في الحب، ووجد بيتر أن مهمته الجديدة هي الأكثر سعادةً في حياته. كان يراقب بعناية، ويلاحظ العلامات، وكان واثقًا من أنه لم يرتكب أيَّ أخطاء، وقبل أن تعود سادي عند وقت العشاء كان يلفُّ ذراعيه حول الرفيقة جيني يكيل القبلات على عُنقِها الأبيض الجميل، وكانت الرفيقة جيني تبكي بهدوء، وأصبحت توسُّلاتها له أن يتوقف ضعيفة وغير مقنعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤