القسم الثاني
مَن يُحاول وصف الأحداث بالكلمات يواجه أحيانًا صعوبةً جوهرية. قد يقع دفعةً واحدةً حدثٌ ذو أهميةٍ هائلة وساحقة، ولكن الكلمات التي تصفه يجب أن تخطر عليك واحدةً تلو الأخرى في سلسلةٍ طويلة. قد يكشف الحدث عن نفسه دون تحذيرٍ مسبق ولو للحظةٍ واحدة؛ ولكن إذا كان على المرء أن يصفه بالكلمات، فعليه أن يستعدَّ له، ويمهِّد له، ويزيد الترقب له، وينشئ لحظة ذروة. إذا كان وصف هذا الحدث الذي ألقاه القدَر على بيتر جادج أثناء عبوره الشارع مقتصرًا على كلمة «بانج» التي تصف صوت الاصطدام، المكتوبة على بضع بوصاتٍ عبْر الصفحة، فلن يكون الانطباع الذي ستُخلِّفه كافيًا.
نهاية العالم، بدا الأمر هكذا لبيتر عندما أصبح قادرًا على السيطرة على ذهنه المرتعب للتفكير فيما حدث. ولكن في البداية لم يكن ثمَّة تفكير؛ كان هناك إحساسٌ فقط، زئيرٌ هائل، كما لو أن الكون بأكمله تحوَّل فجأةً إلى صوت؛ ووميضٍ أبيضَ مبهر، كأنه كل البروق في السماء مجتمعة؛ وصدمة قذفته كما لو كان ريشةً في مهب الريح وألقت به عبْر الشارع ليصطدم بجانب أحد المباني. سقط بيتر على الرصيف متكومًا، وذاهلًا وقد صُمَّت أذناه، وعميت عيناه؛ وظل راقدًا في مكانه لفترة لم يتبيَّنها حتى بدأت حواسُّه تعود إليه تدريجيًّا، وفي خِضَم الفوضى بدأت بعض التفاصيل تبرز؛ دخان رمادي خفيف بدا وكأنه جاثم فوق الأرض، ورائحة مُرَّة تلسع الأنف واللسان، وصرخات الناس، والأنين والبكاء والصخب العام. كان ثمَّة شيءٌ ملقًى على صدر بيتر، وشعر أنه يكاد يختنق، واستجمع قواه ليدفعه بعيدًا؛ شعرت يداه اللتان استخدمهما في الدفع بشيءٍ ساخن، ورطب، ولزج، وارتعب بيتر عندما أدرك أنه كان نصف جسم إنسان مُشوَّهًا.
نعم، كانت نهاية العالم. قبل بضعة أيام فقط، كان بيتر جادج عضوًا متدينًا في الكنيسة الرسولية الأولى، المعروفة أيضًا باسم الرولرز المقدَّسة، وكان يستمع في اجتماعات الصلاة إلى تصورات مشاهد تهز المشاعر من سِفْر الرؤيا. لذا، كان بيتر يعلم أنها نهاية العالم؛ وكانت ثمَّة خطايا كثيرة تُثقل ضميره ولم يكن مستعدًّا بأي حال من الأحوال لمواجهة ربه، فنظر إلى أجساد القتلى والجرحى المتألمين ورأى صفًّا من الصناديق الموضوعة بجوار المبنى، كان قد وضعها أناسٌ كانوا يرغبون في رؤية الموكب من فوق رءوس الحشد. بدأ بيتر يزحف، واكتشف أنه لا يزال قادرًا على فعل ذلك، فانسلَّ خلف أحد هذه الصناديق ودخله ليرقد مختبئًا من ربه.
كان عليه دم، ولم يكن يعرف إذا ما كان دمه أم دم آخرين. كان يرتجف من فَرْط الخوف؛ وكانت أسنانه المُعوجَّة تصطك معًا كما لو كانت أسنان مرموط أرض غاضب. ولكن استمرَّت تأثيرات الصدمة في الزوال، وبدأ يستعيد إدراكه، وأدرك بيتر أخيرًا أنه لم يأخذ أفكار الكنيسة الرسولية الأولى للمدينة الأمريكية على محمل الجد أبدًا. كان يسمع أنين الجرحى، وصيحات وصخب الحشد، وبدأ التفكير بجدية في الأسباب المحتملة لما حدث. كان قد وقع زلزالٌ ذات مرة في المدينة الأمريكية؛ هل يمكن أن يكون هذا زلزالًا آخر؟ أم أن بركانًا قد انفتَح واندلَع في وسط الشارع الرئيسي؟ أم أنه خط غاز؟ وهل انتهى الأمر، أم أن هناك انفجاراتٍ أخرى؟ هل سيستمر البركانُ في الثوران، ويُلقي ببيتر وصندوقه الهش عبْر جدران متجر جوجنهايم المتعدد الأقسام؟
لذا، انتظر بيتر، وظل يستمع إلى الأصوات المروعة للناس وهم يتألمون ويتوسلون لآخرين لإنهاء معاناتهم. سمع بيتر أصوات رجالٍ يُلقون الأوامر، وأدرك أن هؤلاء لا بد أن يكونوا رجال شرطة، وأصبح واثقًا من أن سيارات إسعاف قادمة في الطريق. ربما كان مصابًا، ويجب أن يزحف خارجًا من الصندوق ليتلقى الرعاية التي يحتاج إليها. فجأة، تذكَّر بيتر معدته؛ وأدرك عقلُه — الذي شحذته المعركة التي خاضها في مواجهة هذا العالم المعادي على مدار عشرين عامًا — في لمح البصر الفرصةَ التي جلبها القدَر له. لا بد أن يتظاهر بأنه مصاب، مصاب بشدة؛ يجب أن يكون فاقدًا الوعي، ويعاني من صدمة وأعصابه محطَّمة؛ ومن ثَم، سيأخذونه إلى المستشفى ويضعونه في سريرٍ ناعم ويُعطونه طعامًا؛ وربما يقيم هناك لأسابيع، وربما يعطونه مالًا عندما يخرج.
أو ربما يحصل على وظيفة في المستشفى، وظيفة سهلة لا تتطلب إلا سرعة البديهة. ربما يرغب كبير الأطباء في المستشفى في شخصٍ ما لمراقبة الأطباء الآخرين، ليخبره إذا ما كانوا يهملون المرضى، أو ربما يغازلون بعض الممرضات؛ من المؤكد أن شيئًا من هذا القبيل يحدث. كان الحال على هذا المنوال في دار الأيتام التي قضى بيتر فيها جزءًا من طفولته حتى هرب. وكان الحال على هذا المنوال أيضًا في معبد جيمجامبو العظيم، الذي يُديره باشتيان الكالاندرا، الكاهن الأكبر لمذهب الغرائبية اليوثرانية. كان بيتر يعمل خادمًا في المطبخ في تلك المؤسسة الصوفية، وشق طريقه صعودًا حتى اكتسب ثقة توشبار أكروجاس، المسئول الأول عن المؤسَّسة والذراع اليمنى للنبي نفسه.
أينما وُجِدت مجموعةٌ من الناس، وكنزٌ يحتاج إلى إدارة، كان بيتر يعرف أنه ستُوجد هناك غيبة، وفضائح، ومؤامرات، وتجسُّس، وتتوفر فرصةٌ لشخصٍ ذي عقلٍ «واعٍ تمامًا». قد يبدو غريبًا أن يفكِّر بيتر في مثل هذه الأمور بمجرد أن انفتحت الأرض أمام ناظرَيه، وتحوَّل الهواء إلى ضوضاء مدوِّية ولهبٍ أبيض مبهر وألقى به ليصطدم بمبنًى وأسقَطَ على صدره نصف جسم امرأة داميًا؛ لكن بيتر اعتمد على ذكائه منذ نعومة أظفاره لا على أي شيءٍ آخر، ويتعيَّن على شاب مثله أن يتعلم كيفية استخدام ذكائه في جميع الظروف، بغضِّ النظر عن مدى الحَيْرة التي يشعر بها. غطت تدريبات بيتر تقريبًا جميع حالات الطوارئ التي يمكن أن يفكر فيها الإنسان؛ حتى إنه في بعض الأحيان كان يشغل نفسه بتخيُّل ما سيفعله إذا كانت طائفة الرولرز المقدَّسة على حق، وإذا ما نُفِخَ بوق القيامة فجأة، ووجد نفسه يقف أمام الرب في ثوب نوم أبيض طويل.