القسم الثالث والعشرون
أصبحت اللعبة ممتعة، ولم يكن بيتر ليمل منها مطلقًا لولا أنه كان مضطرًّا للبقاء طوال اليوم في المنزل مع الصغيرة جيني. سار شهر العسل بصورةٍ جيدة لبضعة أسابيع، ولكن لا يمكن لأي رجل أن يتحمل مثل هذا الوضع إلى الأبد. بدا أن الصغيرة جيني لم تكن تملُّ القبلات أبدًا، ولم تبدُ مكتفية أبدًا من حب بيتر العميق لها. يملُّ الرجل من ممارسة الحب بعد فترة، ولكن يبدو أن المرأة لا تعرف كيف تُسقِط الموضوع، فكانت دائمًا ما تتذكَّر ما مضى وتستشرف المستقبل، وتحسب العواقب والمسئوليات، واجبها وسمعتها وأمورًا من هذا القبيل. الأمر الذي كان مملًّا بالطبع.
لم تكن جيني سعيدة بخداع سادي؛ وأرادت أن تُخبر سادي، ولكن كان الاستمرار في خداع الشخص أسهل من الاعتراف له بأنه قد خُدِع. لم يكن بيتر يفهم السبب وراء ضرورة إخبار سادي بالأمر من الأساس، ولم يكن يدري لِمَ لا تبقى الأمور على ما هي عليه، ولِمَ لا يمكنه وحبيبته أن يستمتعا من وقتٍ لآخر بدلًا من أن يظلا دائمًا في حالة حزن، يعانيان باستمرار من الحرب الطبقية، ناهيك عن الحرب العالمية، واحتمالات تورط أمريكا فيها.
لم يكن هذا يعني أن بيتر قاسٍ وعديم الإحساس. لا؛ فعندما كان بيتر يحتضن الصغيرة جيني المرتجفة بين ذراعَيه، كان يتأثَّر بشدة؛ كان لديه شعورٌ حقيقي بأنها روحٌ طيبة ورقيقة. كم كان سيسعد بمساعدتها؛ ولكن ماذا يمكنه أن يفعل حيال ذلك؟ كان الوضع يُجبِره على عدم مجادلتها، لم يكن قادرًا على محاولة تغييرها؛ كان عليه أن يستسلم لجميع أهوائها المجنونة ويتظاهر بالموافقة عليها. كان ضعف الصغيرة جيني سيودي بها للهلاك لا محالة، وما الفائدة التي ستعود عليه من الهلاك معها؟
أدرك بيتر بوضوح أن ثمَّة نوعَين من الناس في العالم، المفترِسون، والفرائس؛ وكان ينوي أن يصبح ضمن الفئة الأولى. كان بيتر قد توصَّل، خلال أعوام عمره العشرين، إلى فهمٍ واضح للأشياء المسمَّاة ﺑ «الأفكار» و«الأسباب» و«الأديان». كانت تلك الأشياء طعومًا لصيد الأغبياء، وكانت ثمَّة منافسةٌ مستمرة بين الأغبياء، الذين بالطبع لا يريدون أن يُقبَض عليهم، وأصحاب الذكاء الأعلى الذين يريدون القبض عليهم؛ لذا، يواصلون ابتكار أنواعٍ جديدة أكثر قبولًا وجاذبية من الطعوم. كان بيتر قد سمع ما يكفي من الهُراء الذي يتحدث به «الرفاق» ليدرك أن طعومهم كانت فعَّالة للغاية، وكانت الصغيرة جيني عالقة تمامًا في صنارتهم، وماذا يمكن لبيتر أن يفعل حيال ذلك؟
ولكن كانت جيني حب بيتر الأول، وعندما شعر بالتأثر الشديد، فهم حقيقة قول جوفي إن الرجل العاشق يميل إلى قول الحقيقة. كان بيتر يريد أن يقول لها: «توقَّفي عن كل هذا الوعظ، وامنحي نفسكِ فترة راحة! دعينا نستمتع بالحياة قليلًا.»
نعم، كاد يُصرِّح بكل ذلك على الرغم من علمه بأن ذلك سيُدمِّر كل ما سعى لتحقيقه. بمجرد أن ظهرت الصغيرة جيني مرتديةً فستانًا حريريًّا جديدًا أحضرته لها إحدى السيدات الثريات التي ضاق صدرها من مظهرها البائس. كان الفستان مصنوعًا من الحرير الرمادي الناعم؛ حرير رخيص، ولكنه جديد ونظيف، ولم تضُم ذراعا بيتر شيئًا بمثل هذا الجمال من قبل. كان لونه يتناسب مع عينَي جيني الرماديتَين، وكانت نضَارتُه تمنح بشرتها لونًا ورديًّا؛ أم أن هذا ما رآه بيتر لأنه كان معجبًا بها، وازداد حبها في قلبه، فاندفع الدم إلى وجنتَيها؟ انتابت بيتر رغبةٌ مُلِحة في أخذها خارج المنزل ليُريَ الجميع إياها، فضغَط وجهه بين ثنايا الفستان الناعم وهمس: «فلتعلمي يا فتاة أننا أنا وأنتِ سنبتعد عن هذه الحياة العصيبة ذات يوم!»
شعر بجسد الصغيرة جيني يتصلب، ثم ابتعدت عنه، وكان عليه أن يتصرف بسرعة لإصلاح الخطأ الذي وقع فيه، فقال متوسلًا: «أريد لصحتكِ أن تتحسَّن. إنكِ تعاملين الجميع جيدًا؛ تعاملين الجميع جيدًا إلا نفسكِ!»
شيءٌ ما في نبرة صوته جعلها تخاف أكثر مما أخافتها الكلمات التي قالها، فصاحت قائلةً: «بيتر! ما أهميتي، أو أهمية أي شخصٍ آخر بمفرده، في مقابل تمزيق أجساد ملايين الشباب بطلقات الرصاص، وفي مقابل ملايين النساء والأطفال الذين يموتون جوعًا!»
ها هما ذا يخوضان الحرب مجددًا؛ كان على بيتر أن يتحمَّل عبئها، أن يكون بطلًا، وشهيدًا، و«أحمر». في عصر ذلك اليوم نفسه، شاء القدَر أن يزورهم ثلاثة من «أعضاء اتحاد العمال الصناعيين العالمي» العاطلين عن العمل، يا إلهي! كم سئم بيتر من أولئك المحرِّضين الجائلين؛ كانوا «بغضاء» لا يُطاقون! كان بيتر يريد أن يقول: «توقفوا عن ذلك! إن ما تُطلِقون عليه «قضيتكم» ليس إلا خطة أعددتموها لتعملوا بالكلمات بدلًا من المجرفة والمعول.» بدأ هذا شجارًا خياليًّا في ذهن بيتر. وفي ذهنه سمع أحد الرجال يسأله: «ما مقدار العمل بالمعول والمجرفة الذي أدَّيتَه أنت؟» وسمع الآخر يقول: «يبدو لي أنك تتعثَّر في الوظائف السهلة أينما تذهب!» لم تُقلِّل حقيقةُ أن ما قيل كان صحيحًا من انزعاج بيتر، ولم تجعله أكثر قدرةً على مقابلة الرفيق سميث، والأخ جونز، والعامل براون الذي خرج للتو من السجن، والاستماع إلى قصصهم الموحية بالحظ العاثر، ومشاهدتهم يلتهمون الطعام الذي يشتهيه بيتر، والأمر الأكثر مرارةً على الإطلاق كان تركهم يعتقدون أنهم يخدعونه بثرثرتهم!
جاء على بيتر وقتٌ لم يعد فيه قادرًا على تحمل المزيد. كان محبوسًا في المنزل طوال اليوم، وبدأ يهتاج ككلبٍ مقيَّد. إذا لم يتمكَّن من الخروج إلى العالم مجددًا، فسوف يكشف عن نفسه بالتأكيد. برَّر موقفه بأن الأطباء حذروه من أن صحته لن تتحمل الحياة الحبيسة بين جدران، ويجب أن يتنشَّق بعض الهواء الطلق. فخرج بمفرده، وبعد ذلك وجد أن الأمور أسهل بكثير. بوسعه أن ينفق قليلًا من أمواله، وبوسعه أن يعثُر لنفسه على ركنٍ هادئ في أحد المطاعم ويطلب شريحة من لحم البقر، ويأكل منها قدْر ما أراد، دون القلق من أن عيونَ أيٍّ من «الرفاق» ترمقه بلوم. كان بيتر قد عاش في سجن، وفي دارٍ للأيتام، وفي بيت شوميكر سميثرز، ولكنه لم يلقَ معاملةً أكثر بؤسًا من التي تلقَّاها في منزل الأختَين تود اللتَين كانتا تشاركان كل ما تملكان تقريبًا مع هيئة الدفاع عن جوبر، ومع جريدة «كلاريون»، الجريدة الاشتراكية في المدينة الأمريكية.