القسم السادس والعشرون
طردت جيني بيتر من المنزل، وغادَر بيتر، رغم تحفُّظاته الكثيرة. ظل يتجول في الشوارع، لا يدري ماذا يفعل، وظل يتأمل الأخطاء التي ارتكبها ويعذِّب نفسه بأكثر الأفكار تعذيبًا؛ كيف كانت ستختلف حياتي لو كنتُ أمتلك ما يكفي من البصيرة التي توجِّهني لفعل أمورٍ أو تمنعني عن فعل أمورٍ أخرى! حان وقتُ العشاء، فتناوَل بيتر وجبةً مشبعة، ولكن حتى تلك الوجبة لم تُشعِره بالراحة التامة. كان يتخيَّل عودةَ سادي إلى المنزل في تلك الساعة. هل ستُخبِرها جيني بما حدث أم لن تفعل؟
كان ثمَّة مؤتمرٌ عامٌّ كبير دعت إليه لجنة الدفاع عن جوبر في ذلك المساء، وحضره بيتر، وتبيَّن أنه كان أسوأ شيء يمكن أن يفعله. لم يكن ذهنُه في حالةٍ تسمح له بتحمُّل الشغف المفرِط لهذا الحشد الضخم. تخيَّل بيتر نفسه يتعرض للفضح والإدانة؛ لم يكن واثقًا بعدُ من أنه قد لا يتعرض لذلك. كان التجمُّع مكونًا من آلاف العمال، وحدادين ذوي أيدٍ خشنة، وعمال الموانئ بأكتافهم العريضة وسائقي الشاحنات ذوي القبضات التي في حجم مدقَّات الأسوار، ومتطرفين يُطيلون شعورهم من مائة طائفةٍ خطرة، ونساء يرفعن مناديلَ حمراءَ ويصرخن صرخاتٍ جعلت بيتر يراهُنَّ أشبه بغُولاتٍ نمَت الثعابين على رءوسهن بدلًا من الشعر.
كان هذا هو جنونَ الغوغاء الذي أثارته قضية جوبر، وكان بيتر يعرف بالطبع أنه كان خائنًا في نظر جميع هؤلاء الناس، مجرد دودةٍ سامة، ثعبان يختبئ وسط العشب. وإذا ما اكتشفوا ما كان يفعله — إذا ما وقف شخصٌ ما، على سبيل المثال، أمام هذا الحشد وفضَحه — فسيُمسكون به ويمزقونه إرْبًا. وربما كانت الصغيرة جيني تُخبِر سادي بما حدث في هذه اللحظة؛ وستُخبِر سادي أندروز، وسيرتاب أندروز في أمر بيتر، وسيكلف جواسيسَ بمراقبة بيتر جادج! ربما كانوا قد كلفوا جواسيس بمراقبته بالفعل، وعرفوا بأمر اجتماعاته مع ماكجيفني!
رغم تلك الأفكار المرعبة التي تؤرقه، كان على بيتر أن يستمع إلى الخطب الطويلة التي ألقاها كلٌّ من دونالد جوردون، وجون دوراند، وسورنسن، ورئيس عمال الموانئ. واستمع إلى كشف الحِيَل التي استخدَمها جوفي واحدةً تلو الأخرى، واستمع إلى اتهام المدعي العام في المقاطعة بالتحريض على الشهادة الزور، واتهام وكلائه بالابتزاز والتزوير. لم يفهم بيتر السبب وراء السماح بحدوث مثل هذه الأمور؛ لماذا لا يُقبض على جميع هؤلاء الخطباء. ولكنه ظل جالسًا يستمع، واضطُر حتى إلى التصفيق والتظاهر بالموافقة! كان على جميع العملاء السريين الآخرين لشركة تراكشن تراست ومكتب المدعي العام أن يستمعوا ويتظاهروا بالموافقة! وفي داخل القاعة، التقى بيتر ميريام يانكوفيتش وجلس بجوارها. قالت ميريام: «انظر، ثمَّة رجلَا شرطة هناك. انظر إلى وجهَيْهما!»
قال بيتر: «من تقصدين؟»
أجابته: «ذلك الرجل الذي يبدو كالملاكم، وذلك الذي بجانبه، ذو الوجه الشبيه بالجُرَذ.» نظر بيتر إلى حيث أشارت ورأى ماكجيفني؛ ونظر ماكجيفني نحو بيتر ولكنه لم يُعطِ أي إشارة.
استمر الاجتماع حتى قرب منتصف الليل تقريبًا، وجُمِعت خلاله تبرعاتٌ بعدة آلاف من الدولارات لصالح صندوق الدفاع عن جوبر واعتُمِدت قراراتٌ شرسة أُمِرَ بطبعها وإرسالها إلى جميع فروع النقابات العمالية في البلاد. خرج بيتر قبل انتهاء الاجتماع؛ لأنه لم يعُد يستطيع كبتَ مخاوفه وقلقه أكثر من ذلك. شق طريقَه عبْر الزحام، وفي الردهة، التقى بات ماكورميك، زعيم اتحاد العمال الصناعيين العالمي.
كانت ملامح وجه هذا الصبي الصارمة تحمل انفعالًا أشد مما رأى بيتر من قبلُ طوال حياته. ظن بيتر أن السبب هو التجمع نفسه، إلا أن الآخر اندفع نحوه صائحًا: «هل سمعتَ الأخبار؟»
«أي أخبار؟»
«لقد انتحرت الصغيرة جيني تود!»
شهق بيتر متراجعًا إلى الخلف، وقال: «يا إلهي!»
«لقد أخبرتْني أدا روث بالخبر للتو. عثرت سادي على رسالةٍ عندما عادت إلى المنزل. أما جيني، فقد غادرت المنزل بنِيَّة أن تُغرق نفسها.»
صاح بيتر ملتاعًا: «ولكن ماذا … لماذا؟»
«كانت تعاني كثيرًا، فصحَّتها كانت معتلة للغاية، وطلبت من سادي ألا تبحث عن جثَّتها، وألا تُثير جلبةً حول الأمر … فلن يتمكَّن أحد من العثور عليها.»
على الرغم من شعور بيتر بالرعب والصدمة، ارتاح شيءٌ ما في داخله وأخذ شهيقًا عميقًا. لقد أوفت الصغيرة جيني، أوفت بوعدها! وكان بيتر آمنًا!