القسم السابع والعشرون

نعم، أصبح بيتر آمنًا، ولكنه كان قد أفلت بأعجوبة، ولم تزل هناك مشاهدُ مؤلمة عليه أن يؤدي دوره فيها. كان عليه أن يعود إلى منزل آل تود ويلتقي سادي المفجوعة، ويبكي ويبدو مصدومًا مع بقيتهم. سيصبح الأمر مثيرًا للريبة لو لم يفعل ذلك، ولن يغفر له «الرفاق» ذلك أبدًا. وما أفزَعه أنه عرف أن سادي توصَّلت بطريقةٍ ما إلى قناعةٍ مؤكدة بشأن مشكلة جيني. حاصرت سادي بيتر في أحد الأركان واتهمته بأنه المسئول، ووقف بيتر المسكين يُصِر بشدة على براءته، ولكم تمنى لو أن الأرض انشقَّت وابتلَعته.

وفي خِضَم إصراره على براءته، طرأت على ذهنه خطةٌ ذكية. فخفض صوتَه متظاهرًا بالخجل، وقال إن رجلًا، شابًّا، كان يأتي لرؤية جيني من حين لآخر. قال بيتر: «طلبت مني جيني ألا أخبر أحدًا.» ثم بدا عليه التردُّد للحظات قبل أن يضيف لمساته النهائية: «قالت لي جيني إنها عاشقةٌ حرة، وأخبرتْني بكل شيءٍ عن العشق الحر. قلتُ لها إنني لا أومن به، ولكنكِ تعرفين يا سادي كيف تكون جيني عندما تؤمن بشيءٍ ما، كانت تُدافِع عنه وتتصرَّف وفقًا له. لذا، كنت واثقًا من أن تدخُّلي لن يؤدي إلى شيء.»

كادت سادي أن تفقدَ عقلَها عند سماعها ما قاله بيتر. وحدَّقت في وجه بيتر بغضب، وصرخت قالت: «أيها المفتري! أيها الشيطان! من كان ذلك الرجل؟»

أجابها بيتر: «اسمه نيد. هكذا كانت جيني تناديه. لم يكن من شأني أن أسألها عمن يكون.»

«لم يكن من شأنك رعايةُ طفلةٍ بريئة؟»

قال بيتر: «جيني نفسها قالت إنها ليست طفلةً بريئة، وإنها تعرف جيدًا ما تفعل؛ جميع الاشتراكيين يفعلون المثل.» وأضاف إلى هذه الجملة الأخيرة أنه ظنَّ أنه ليس من اللائق أن يكون المرء ضيفًا في منزل ويتجسَّس على أخلاق مضيِّفيه. عندما أصرَّت سادي على التشكيك فيه، بل سَبه، اختار الخروج من المأزق عبْر الطريق السهل؛ استشاط غضبًا وخرج من المنزل ثائرًا.

كان بيتر واثقًا تقريبًا من أن سادي لن تنشر القصة أكثر من ذلك؛ فقد كانت مهينة للغاية لأختها ولنفسها؛ وربما توصلت لتصديق قصة بيتر، عندما أمعنت التفكير في الأمر؛ فربما كانت هي نفسها «عاشقة حرة». أكَّد ماكجيفني على أن جميع الاشتراكيين على هذه الشاكلة، وكان يعرف الكثير عنهم. على أي حال، ستُضطر سادي إلى مراعاة عدم تعريض قضية جوبر للخطر، مثلما فعلت الصغيرة جيني تمامًا. كان بيتر يملك زمام الأمور من هذه الجهة بلا شك، وأدرك أنه قادرٌ على أن يبدو متسامحًا، فذهب إلى الهاتف واتصَل بسادي وقال: «أريدك أن تعرفي أنني لن أقول أي شيءٍ عن هذه القصة، ولن يعرف أحدٌ شيئًا عنها إلا من خلالكِ.»

لا بد أن سادي أخبرت نصف دُزِّينة من الأشخاص بالقصة. فقد تعاملت السيدة نيبينز مع بيتر ببرودٍ شديد خلال زيارته التالية للسيد أندروز؛ كما فقدت ميريام يانكوفيتش ودَّها السابق نحوه، وعاملته عدة نساءٍ أخريات بتحفُّظٍ مقصود. ولكن الشخص الوحيد الذي تحدث عن الأمر كان بات ماكورميك، الصبي التابع لاتحاد العمال الصناعيين العالمي الذي نقل لبيتر خبر انتحار الصغيرة جيني. ربما لم يتصرف بيتر بصورةٍ مُرضية في تلك المناسبة، أو ربما لاحظ الشاب شيئًا من تلقاء نفسه، كبعض نظرات الحب المتبادلة بين بيتر وجيني. لم يكن بيتر يرتاح لوجود ذلك الصبي الأيرلندي الصموت الذي كانت عيناه السوداوان تنتقلان من شخص إلى آخر في المكان وكأنها تستطلع أفكارك الأكثر سرية.

تحقَّق أسوأ مخاوف بيتر. فقد حاصره «ماك» في أحد الأركان، ووضع قبضتَه تحت أنفه، وقال له إنه «كلبٌ قذر»، ولولا قضية جوبر، لكان، هو «ماك»، قتله دون تردُّد.

لم يجرؤ بيتر على فتح فمه؛ فقد كان تعبير وجه الأيرلندي غاضبًا لدرجة أنه خشي على حياته بالفعل. يا إلهي، يا لها من عصبة مليئة بالكراهية هؤلاء الحُمْر! والآن أصبح أسوءُهم عدوًّا لبيتر! من الآن فصاعدًا، ستظل حياته في خطر من هذا الأيرلندي المجنون! كان بيتر يكرهه، بصدق ومن كل قلبه لدرجة أنه ساعدَه على تحويل أفكاره بعيدًا عن الصغيرة جيني ورؤية نفسه ضحية.

نعم، في ساعات الليل المتأخرة عندما كان وجه جيني الصغير اللطيف يستحوذ على تفكير بيتر ويؤنبه ضميره، كان يتأمل شبكة الأحداث المتداخلة، ويرى بوضوح أن هذه المأساة كانت حتمية، وأنها نشأت بطبيعة الحال من ظروفٍ خارجة عن إرادته. لم يكن نضال العمال في المدينة الأمريكية ذنبَ بيتر؛ ولم يكن تورُّطه فيه ذنبه أيضًا، لقد أُجبر على أن يكون شاهدًا، ثم عميلًا سريًّا. كان بيتر يقرأ صحيفة «تايمز» المدينة الأمريكية كل صباح وعرف أن مسعى جوبر هو إثارة الفوضى والشغب، بينما كان مسعى المدعي العام وجهاز الأمن السري التابع لجوفي هو إنفاذ القانون وإرساء النظام. وكان بيتر يبذل قُصارى جهده لصالح هذا المسعى العظيم، فكان ينفِّذ تعليمات رؤسائه، فلِمَ إذن يمكن أن يُلام بسبب فتاةٍ ضعيفة اعترضت طريق قاطرة القانون العظيمة؟

كان بيتر يعرف أن ما حدث ليس ذنبه، ومع ذلك ظل الحزن والرعب ينخران في نفسه. فقد كان يشتاق للصغيرة جيني؛ كان يشتاق لها في النهار ويشتاق لها في الليل. كان يشتاق لصوتها الحنون، وشعرها الناعم الخفيف، وجسدها بين ذراعَيه الفارغتَين. كانت حبه الأول، وقد ماتت، ومن سمات الضعف البشري أن يزداد تقديرنا للأشياء بعد فقدانها.

كان بيتر يطمح إلى أن يكون رجلًا قويًّا، «رجلًا صُلبًا» وفقًا للهجة العامية التي بدأت تنتشر في البلاد، وكان يُحاول حاليًّا أن يكون كذلك بالفعل. لم يكن يريد أن يواصل اجترار ذكرى هذا الحادث؛ ولكن ظل وجه جيني يلازمه؛ كان يتخيله أحيانًا بملامحَ جنونية، كما رآه خلال لقائهما الأخير، وبملامحَ لطيفة لائمة في أحيانٍ أخرى. سيظل بيتر يتذكَّر كَم كانت جيني طيبة، وكَم كانت رقيقة، وكَم كانت دائمة الاستجابة لأي بادرة حب من جانبه. أين سيعثر على فتاة مثلها؟

كان هناك أمرٌ آخر يزعجه بشكلٍ خاص؛ أمرٌ غريب، لا يمكن تفسيره، ولم يتمكَّن بيتر من العثور على كلماتٍ تصفه، ووجد نفسه يفكر فيه باستمرار. لقد قدَّمت هذه الفتاة الضعيفة الهزيلة حياتها عن عمدٍ فداءً لمعتقداتها؛ لقد ماتت حتى ينجو هو ويؤدي دوره كشاهدٍ لصالح آل جوبر! لا شك في أن بيتر كان يعرف طوَال الوقت أن الصغيرة جيني قد قُدِّر لها الهلاك، وأنها تضحِّي بنفسها، وأنْ لا شيء يمكن أن ينقذها. ولكن ما قد يلقي الرعب في أقوى النفوس هو أن يكون الناس متعصِّبين لدرجة أن يُضحُّوا بحياتهم في سبيل تحقيق مسعًى ما. وجد بيتر نفسه ينظر إلى أفكار هؤلاء الحُمْر من منظورٍ جديد؛ كان يراهم سابقًا مجموعةً من «المجانين»، ولكنه أصبح يراهم الآن كائناتٍ قبيحة مشوَّهة، مخلوقات شيطانية، أو مخلوقات إلهٍ جُن جنونه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤