القسم الثلاثون
بهذه الطريقة، نفَض بيتر يدَيه من قضية جوبر، وكان سعيدًا بذلك للغاية. كان متعبًا من الضغوط، وكان بحاجة إلى قليل من الراحة والمتعة. كانت جيوبُه مليئة بالمال، وكان حسابه المصرفي متخمًا، وكان يعتزم ألا يُجهِد نفسه في أي عمل للمرة الأولى في حياته الصعبة والمنعزلة.
كانت الفرصة في متناول يده؛ كان قد استمع لنصيحة ماكجيفني بأن يدخل في علاقة مع فتاةٍ أخرى. كانت علاقةً رومانسيةً ممتعة. لفهم طبيعة العلاقة، عليك أن تعرف أن الإجراءات القضائية في المدينة الأمريكية تستخدم الرجال والنساء كمحلَّفين، ولأن رجال الأعمال المشغولين لم يرغبوا في إضاعة أوقاتهم في مقصورة المحلَّفين، وكذلك أوقات موظفيهم وعمالهم، نمت تدريجيًّا فئة من الرجال والنساء يجْنون قُوتَ يومهم من العمل كمحلَّفين. فكانوا يتجوَّلون في أنحاء المحكمة ويُستدعَون إلى لجنة محلَّفين بعد أخرى، وكانوا يتقاضَون ستة دولارات في اليوم، مع توفُّر العديد من الفرص لكسب المال بطريقةٍ ملتوية إذا كانوا أذكياء.
نَشِبت بين هذه المجموعة من المحلَّفين المحترفين منافسةٌ قوية للانضمام إلى منصة محلَّفي قضية جوبر. كان من المتوقع أن تكون قضيةً طويلةً ضروسًا، وسيحظى كل المشاركين بها بمكانةٍ كبيرة، وكانت ثمَّة أموالٌ طائلة تلوح في الأفق. وسيكون كل من يلتحق بمقصورة محلَّفيها، ويصوِّت بالشكل الصحيح، واثقًا من حصوله على دخلٍ يكفيه مدى الحياة، ناهيك عن عمله كمحلَّف طوال حياته إذا أراد.
تصادف وجود بيتر في المحكمة أثناء اختيار المحلَّفين. ورأى فتاةً خمرية البشرة ضئيلةَ الجسد وشديدةَ الجاذبية — وصفَها بيتر بأنها «شديدة الأناقة» — تقف على المنصة محاوِلةً بذكاء أن تُرضيَ كلا الجانبَين. لم تكن تعرف شيئًا عن القضية، ولم تكن قد قرأت شيئًا عنها، ولم تكن تعرف عن المشكلات الاجتماعية ولم تكن تهتم بها؛ لذا، قبِلها الادعاء. ولكن تسلَّمها الدفاع بعد ذلك، وتبيَّن أنها تخلت عن حذَرها ذات مرة وأخبرت شخصًا ما عن قناعتها بأن جميع قادة العمال يجب أن يصطفُّوا أمام جدار وتُغربلَهم الرصاصات، فاعترض الدفاع على مشاركتها، وكانت تبدو محبَطةً للغاية وهي تهبط من على المنصة، وجلست على المقعد المجاوِر لبيتر في قاعة المحكمة. رأى بيتر عينَيها تغرورقان بالدموع، وأدرك خيبة أملها، فتجرَّأ وأظهر لها تعاطُفه، وتعارَفا، وخرجا لتناول الغداء معًا.
كانت تُدعى السيدة جيمس، وكانت أرملة، زوجة مهجورة كما ذكرت بمرح. كانت ذكية ونشيطة ذات أسنانٍ بيضاء لامعة، ووجنتَين تتوهجان بحُمرة الصحة، كانت هذه الحُمرة تأتي من قنينة صغيرة، ولكن لم يتمكن بيتر من تخمين محتواها. كان بيتر قد اشترى بدلةً جيدة، وتجرأ على إنفاق بعض المال على الغداء. وكما رأينا، كان بيتر والسيدة جيمس قد فرغا من أمر قضية جوبر، وكانا متعَبَين ويريدان بعض التغيير، واقترح بيتر بخجل أن الإقامة لبعض الوقت على الشاطئ قد تكون ممتعة. وافقت السيدة جيمس على الفور، وتَمَّ ترتيب الأمر.
كان بيتر قد شهد قدْرًا كافيًا من أعمال التحري ليدرك ما يمكن فعله بأمان، وما لا يُفَضَّل فعله. لم يسافر برفقة الزوجة المهجورة، ولم يدفع لها أجرة السيارة، ولم يفعل أي شيءٍ آخر يجعلها تشعر بأنها من «الرقيق الأبيض». كل ما فعله هو أن ذهب إلى الشاطئ واستأجر شقةً مريحة؛ والتقى الأرملة في اليوم التالي صدفةً أثناء تجوُّله على الممشى الخشبي.
ومن ثَم، عاش بيتر والسيدة جيمس معًا لبضعة أشهر. كانت تجربةً رائعة لبيتر؛ فقد كانت السيدة جيمس نموذجًا لما يُطلق عليه «سيدة أرستقراطية»؛ فقد كان لها أقارب أثرياء، وكانت تحرص على أن يعرف بيتر أنها عاشت حياةً مرفَّهة قبل أن يهرب زوجها إلى باريس مع فتاة سيرك تمشي على الحبل. عَلَّمت السيدة جيمس بيتر جميع الفنون الراقية التي يفتقر لها مَن ينشأ في دار للأيتام، وعلى الطريق مع بائعِ عقاقيرَ مغشوشة. فقد علَّمته بلطف، ومن دون إيذاء مشاعره، كيفية استخدام السكين والشوكة، ولون ربطة العنق الذي يجدُر به اختياره. في الوقت نفسه، كانت تُعامِله بطريقة جعلته يرى نفسه الرجل الأكثر حظًّا بين البشر، وكان يغمُره الامتنان لكل قُبلة من شفتَي الزوجة المهجورة. لا شك في أنه لم يكن يتوقع أن يُحابيَه الحظ لهذه الدرجة من دون مقابل؛ فلم يتعلم قبل ذلك إلا أنه لا يُوجَد ما يُسمى ﺑ «الحب المجاني». لذا، دفع أموالًا طائلة؛ لم يدفَع كامل تكاليف شهر العسل غير الشرعي فحسب، بل اشترى أيضًا الكثير من الهدايا الثمينة التي اقترحتْها السيدة. كانت دائمًا ما تتألق وتشع بالحب عندما يُهديها بيتر هدية! كان بيتر يعيش في حُلم، وبدا أن ماله يخرج من جيوبه دون أن يُضطر إلى لمسه.
في الوقت نفسه، كانت تقع تطوُّراتٌ كبيرة لم يُعِرها بيتر والزوجة المهجورة اهتمامًا؛ فلم يكونا يقرآن الصحف. من بين هذه التطوُّرات أن جيم جوبر وُجِد مذنبًا وحُكم عليه بالإعدام، ووُجِد شريك جوبر، بيدل، مذنبًا وحُكم عليه بالسجن المؤبَّد. بالإضافة إلى ذلك، جُرَّت أمريكا إلى الحرب، وانتشرت موجةٌ من الحماسة الوطنية كالنار في الهشيم في جميع أنحاء البلاد. لم يستطع بيتر تجاهُل ذلك؛ فقد جذب انتباهَه جانبٌ من الأحداث؛ كان الكونجرس على وشك تمرير قانون التجنيد. وكان بيتر في سن التجنيد؛ وكان من المؤكد أن يُجنَّد بيتر في الجيش!
لم يشعر بيتر برعبٍ مماثل من قبلُ في حياته. كان قد حاوَل نسيان الصور المروِّعة للمعارك والمذابح، والرشاشات والقنابل اليدوية والطوربيدات والغازات السامة، التي ملأت الصغيرة جيني مخيِّلته بها، ولكن عادت هذه التخيُّلات لتملأ عقله من جديد، وشعر للمرة الأولى بأنها ذاتُ صلة به. ومنذ ذلك الحين، تعكَّر صفو شهر عسله. كان بيتر والزوجة المهجورة أشبه بمتنزهَين تعمَّقا كثيرًا في البراري، وأبصَرا عاصفةً رعديةً سوداء تتقدم في السماء نحوهما!
علاوةً على ذلك، كان حساب بيتر المصرفي يُوشِك على النفاد. لم يكن لدى بيتر أدنى فكرة عن كَمِّ الأموال التي يمكن إنفاقها على زوجةٍ مهجورة «أنيقة» تعلم كل ما هو «مناسب». كان محرجًا للغاية؛ وأجَّلَ إخبار السيدة جيمس بالوضع حتى اللحظة الأخيرة؛ في الواقع، حتى يصبح غيرَ واثقٍ مما إذا كان يملك ما يكفي من المال في المصرف لسداد الشيك الأخير الذي أعطى المالِكة إياه. ثم، حين أدرك أن اللعبة انتهت، أخبرها.
فوجئ بيتر بتقبُّل الزوجة المهجورة «ذات التربية الراقية» للأخبار السيئة بروحٍ مرحة. لا شك في أنها لم تكن المرة الأولى التي تذهب فيها السيدة جيمس إلى الشاطئ. فقد ابتسمت في جذل وقالت إنها ستعود إلى مقصورة المحلَّفين مجددًا. وأعطت بيتر بطاقتَها وأخبرته أنها ستكون سعيدةً لو زارها مرةً أخرى، عندما يستعيد حظوظه. ثم حزمت حقيبتَها وصندوقَها الجديد المليء بالهدايا التي حصلت عليها من بيتر، وانصرفت بألطفِ طريقة وأرقى ذوقٍ ممكن.