القسم الثاني والثلاثون
أبلغ بيتر ماكجيفني بالخطة، ووعده ماكجيفني بأن الشرطة ستكون حاضرة. وطلب منه بيتر أن يتوخَّى الحذر وأن يأمر رجال الشرطة بأن يتعاملوا بلطف؛ الأمر الذي رسم ابتسامةً على وجه ماكجيفني، ثم قال إنه سيراعي ذلك.
كانت الخطة بسيطة للغاية ولم تستغرق إلا أقل من عشر دقائق. وقفت الشاحنة في الشارع الرئيسي، وتقدَّم متحدثٌ شاب وأعلن لأقرانه من المواطنين أن الوقت قد حان لأن يعلن العمال عما يشعرون به تجاه التجنيد الإجباري. أبدًا لن يسمح الأمريكيون الأحرار لأنفسهم بأن يُجمعوا كالقطعان في جيوش ويُشحنوا خارج بلادهم ليُذبحوا لأجل مصالح مصرفيين دوليين. كان هذا هو أقصى ما قاله المتحدث حتى تلك اللحظة عندما تقدَّم شرطي وأمره بالسكوت. وعندما رفَض المتحدث الانصياع، طرَق الشرطي على الرصيف بعصاه، وظهر فريقٌ مُكوَّن من ثمانية أو عشرة رجال عند ناصية الشارع، وقيل للمتحدث إنه قيد الاعتقال. فتقدم متحدثٌ آخر وأكمل الخطاب، وعندما اعتُقل أيضًا، خرج آخر، ثم آخر، حتى اعتُقل الستة جميعهم، ومن بينهم بيتر.
لم يتوفر للحشد وقتٌ لتحديد موقفه من أيٍّ من الجانبَين، كانت عربة دورية في الانتظار، وجُمع المتحدثون ونُقلوا إلى مركز الشرطة، وفي صباح اليوم التالي، عُرِضوا على القاضي الذي حكم على كلٍّ منهم بالسجن خمسة عشر يومًا. كانوا يتوقعون أن يُسجنوا ستة أشهر؛ لذا كانوا مجموعةً سعيدة من «اليساريين».
وزادت سعادتهم أكثر عندما رأَوا كيف كانوا يُعاملون في السجن. كان من عادة الشرطة أن تُلحق أكبر قدْرٍ ممكن من الألم والإذلال بالحُمْر. كانوا يضعونهم في الخزان الدوار، وهو هيكلٌ فولاذي ضخم يحتوي على الكثير من الزنازين ويُدار باستخدام ذراع تدوير. وليتمكن المرء من دخول زنزانة بعينها، كان يجب تدوير الخزان بأكمله حتى تصبح تلك الزنزانة مقابلة للمدخل، ما يعني أن جميع مَن في الخزان كانوا يحصلون على رحلةٍ مجانية تصاحبها أصواتُ أنين وصرير الآلة الصدئة التي لا تنقطع، وكان هذا يعني أنه لم يكن أيٌّ من نزلاء تلك الزنازين ينامون نومًا متصلًا. كان الخزان مظلمًا، مظلمًا للغاية حتى إنه كانت تتعذر القراءة فيه، هذا إن كان النزلاء يملكون كتبًا أو أوراقًا من الأساس. لم يكن هناك ما يفعلونه سوى تدخين السجائر ولعب النرد، والاستماع إلى قصص المجرمين البذيئة، والتخطيط للانتقام من المجتمع عندما يخرجون إليه مجددًا. ولكن في الجناح الجديد من السجن كانت تُوجَد بعض الزنازين النظيفة التي تدخلها الشمس والهواء؛ فقد كانت على بُعد ثلاث أو أربع أقدام فقط من صف من النوافذ. كانت هذه الزنازين تُخصص عادةً للمجرمين من الطبقة العليا؛ النساء اللاتي قطَعن رقابَ عشاقهن، واللصوص الذين أفلتوا بمسروقاتهم، والمصرفيين الذين نهبوا مجتمعاتٍ محلية بأكملها. ولكن ما أثار دهشة خمسة من إجمالي ستة مناهضين للحرب، هو أن المجموعة بأكملها وُضعت في إحدى هذه الزنازين الكبيرة ومُنِحت امتياز الحصول على كتب لقراءتها والقدرة على شراء الطعام. في ظل هذه الظروف، تحوَّلت الشهادة إلى مزحة، واستقر أفراد المجموعة الصغيرة مستمتعين بالحياة. ولم تخطر على بال أيٍّ منهم فكرة أن بيتر جادج قد يكون مصدر هذا الكرم. وأرجعوا ما يحدث معهم إلى «جمال طلعتهم»، كما يقول الفرنسيون.
ضمَّت هذه المجموعة دونالد جوردون، الذي كان ابن رجل أعمال ثري، وكان طالبًا جامعيًّا، حتى طُرِد لتنفيذه مبادئ المسيحية حرفيًّا وإصراره على شرحها باستمرار في الحرم الجامعي. كما ضمَّت حطَّابًا ضخم الجسم قوي البنيان من شمال البلاد يُدعى جيم هندرسون، كان قد طُرد من المخيمات للسبب نفسه، وكان يقُص باستمرار قصصًا مروِّعة عن قسوة وصعوبة حياة الحطابين. وضمَّت المجموعة أيضًا بحَّارًا سويديًّا يُدعى جوس، زار جميع موانئ العالم، وعاملًا يهوديًّا شابًّا في مصنع للسيجار لم يغادر المدينة الأمريكية قَط ولكنه سافر إلى العديد من الأماكن في ذهنه.
كان الرجل السادس أغرب شخصية في المجموعة من منظور بيتر؛ فقد كان رجلًا خجولًا وحالمًا ذا عينَين مليئتَين بالألم ووجهٍ حزين لدرجة أنه كان يؤلم من ينظر إليه. كان اسمه دوجان، وكان معروفًا في الحركة باسم «الشاعر المُشرَّد». كتب دوجان قصائد، قصائد كثيرة عن حياة الناس المنبوذين من المجتمع؛ كان يطلب قلم رصاص وورقة ويظل جالسًا في أحد أركان الزنزانة لساعات، وكان بقية الرفاق يتحدثون همسًا حتى لا يزعجوه احترامًا لعمله. وبدا لبيتر أنه كان يكتب طوال الوقت بينما كان الآخرون نيامًا. كتب قصائد عن مغامرات زملائه السجناء، وكان يكتب حاليًّا قصائد عن السجَّانين، وعن سجناء آخرين في هذا الجزء من السجن. كان إلهامه متقلبًا، فكان يؤلف القصائد أثناء سيره؛ ثم يعود ليغرق في يأسه، ويقول إن الحياة جحيم، ويكتب قصيدةً عن سخافتها.
لم يكن يُوجَد جزء من أمريكا لم يزُرْه توم دوجان، ولم تكن ثمَّة مأساةٌ في حياة المنبوذين لم يُعانِها. كان مشبعًا بهذه المآسي لدرجة أنه لم يستطع التفكير في أي شيءٍ آخر. كان يحكي عن الرجال الذين ماتوا عطشًا في الصحراء، وعن عمال المناجم الذين حُبسوا لأسابيع في منجم تهدم فوق رءوسهم، وعن عمَّال مصانع الثقاب الذين سُمِّمت أجسادهم حتى سقطت أسنانهم، وأظافرهم وحتى عيونهم. لم يستطع بيتر أن يرى مبررًا لهذه الكآبة وهذا الإصرار اللانهائي على الأمور المروِّعة في الحياة الذي أفسد سعادته في السجن كاملةً؛ كان حديث الرجل أسوأ من حديث الصغيرة جيني عن الحرب!