القسم الرابع والثلاثون

وسط مجموعة مثل هذه، اكتملت إجبارًا، إذا جاز التعبير، دراسة بيتر لتأدية دور المحقق. فكان يستمع إلى كل ما يُقال، وعلى الرغم من أنه لم يجرؤ على تدوين أي ملاحظات، فقد خزن كنوزًا في ذاكرته، وعندما خرج من السجن، تمكَّن من إعطاء ماكجيفني صورةً كاملة تقريبًا للمنظمات الراديكالية المختلفة في المدينة الأمريكية، وموقف كل واحدةٍ منها تجاه الحرب.

اكتشف بيتر أن خطة ماكجيفني كانت قد سارت على الوجه الأمثل. فقد أصبح يُنظر إلى بيتر على أنه شهيد وبطل، وتأكد وضعه كأحد «اليساريين»، وأي شخصٍ يجرؤ على التفوُّه بكلمة ضده كان سيُوبَّخ بشدة. في واقع الأمر، لم يرغب أحدٌ في قول الكثير عنه. فقد كان بات ماكورميك، عدُو بيتر، في رحلةٍ تنظيمية لعمال النفط.

كان قد بدا أن دوجان أصبح معجبًا ببيتر، فصَحِبه لمقابلة بعض أصدقائه الذين يعيشون في مخزنٍ قديم مهجور، كانت به فتحات في السقف يتخللها ضوء الشمس؛ الأمر الذي جعل من كل غرفة «استوديو»، واستأجر العديد من الراديكاليين هذه الغرف، ومارسوا في هذا المكان نوعًا من الحياة الخالية من المسئوليات التي عرف بيتر أنها تُسمَّى «بوهيمية». كان أغلبهم من الشباب، وكان من بينهم رجلٌ مُسِن أو رجلان، وكانوا مشردين؛ كانوا يرتدون قمصانًا صوفية خفيفة، وربطات عنق ناعمة، أو من دون ربطات عنق على الإطلاق، وكانت أصابعهم ملطَّخة دائمًا بالألوان. كانت متطلبات حياتهم بسيطة؛ فكل ما كانوا يريدونه هو كمياتٌ غير محدودة من اللوحات والألوان، وبعض السجائر، وعلى فتراتٍ طويلة، كانوا يحتاجون إلى قطعة من الخيار أو الملفوف المخلَّل وزجاجة من البيرة. كانوا يجلسون طوال اليوم أمام حوامل اللوحات يرسمون لوحات لا يمكن فهم المغزى منها؛ سماواتٍ ورديةً ونساء ذوات وجوه خضراء وعشبًا أرجوانيًّا وإفراطًا خياليًّا في الألوان، وكانوا يسمُّون تلك اللوحات أسماء تتراوح من «المرأة مع وعاء الخردل» إلى «امرأة عارية تهبط الدرج.» وكان ثمَّة آخرون، على غرار دوجان، يقرضون الشعر طوال اليوم؛ يطرقون على أزرار آلات كتابة، إذا استطاعوا استئجار واحدة أو استعارتها. وكان عديدون منهم يغنُّون، وكان أحدهم يعزف الناي ويجعل الآخرين يشعرون بشجنٍ بالغ. كان ثمَّة صبي جاء للتو من الريف، وقال إنه هرب من المنزل لأن أفراد عائلته كانوا يغنُّون الترانيم طوال أيام الآحاد، ولم يغنُّوها أبدًا بنغمتها الصحيحة.

كنت ستسمع الأقوال الأكثر ثورية من أشخاص على هذه الشاكلة؛ ولكن سرعان ما أدرك بيتر أنها لم تكن تمثل لهم في أغلب الأحيان إلا مجرد كلمات. كانوا يُفرِغون فَورات غضبهم ببضعِ لطخاتٍ من اللون على اللوحات أو بضع ضرباتٍ عنيفة على مفاتيح البيانو. لم يكن الأشخاص الخطرون فعليًّا موجودين في هذا المكان، بل كانوا مختبئين في مكاتبهم أو أوكارهم التي يحرِّضون منها على الإضرابات والاضطرابات العمالية، ويُعِدون المنشورات المحرِّضة لتوزيعها بين الفقراء.

كان المرء يلتقي مثل هؤلاء الأشخاص في الاجتماع الاشتراكي العام، وفي المقر الرئيسي لاتحاد العمال الصناعيين العالمي، وفي العديد من الأندية وجمعيات الدعاية التي حقَّق بيتر في أمرها، والتي رُحِّب به عضوًا فيها. خلال الاجتماع الاشتراكي العام، كان هناك جدلٌ محتدم حول الحرب. ما الموقف الذي ينبغي أن يتخذه الحزب؟ كانت هناك مجموعة، مجموعة صغيرة نسبيًّا، تعتقد أن مصالح الاشتراكية ستتحقق بصورةٍ أفضل عبْر مساعدة الحلفاء على الإطاحة بالقيصر. وكانت هناك مجموعةٌ أخرى أكبر وأكثر عزمًا تعتقد أن الحرب مؤامرةٌ دبرتها القوى الرأسمالية المتحالفة لإحكام قبضتها على العالم، وكانت هذه المجموعة تريد من الحزب أن يبذل كل نفيسٍ وغالٍ على مكافحة مشاركة أمريكا في هذه الحرب. كانت هاتان المجموعتان تتنافسان على عقول أعضاء الحزب بمختلف مراتبهم، الذين أصابهم الارتباك بسبب ضخامة القضية وتعقيد الحُجج. كانت الأوامر التي تلقَّاها بيتر هي الانضمام إلى المناهضين المتطرفين للحرب؛ كانوا هم مَن يرغب في أن يحوز ثقتهم، كما أنهم كانوا مشاغبي الحركة، وكانت تعليمات ماكجيفني هي إثارة أكبر قدْرٍ ممكن من الاضطراب.

في المقر الرئيسي لاتحاد العمال الصناعيين العالمي، كانت مجموعةٌ أخرى يناقش أعضاؤها موقفهم من الحرب. هل يدعون إلى إضراب ويحاولون تعطيل الصناعات الرئيسية في البلاد؟ أم يواصلون عملَهم التنظيمي في هدوء، واثقين من أن العمال سيفيضُ بهم الكيل في نهاية المطاف من المغامرة العسكرية غير المحسوبة التي يُستدرَجون إليها؟ بعض «أعضاء اتحاد العمال الصناعيين العالمي» هؤلاء كانوا أيضًا أعضاء في الحزب الاشتراكي وكانوا حاضرين في كلا الاجتماعَين، وكان اثنان منهم، هندرسون الحطَّاب، وجوس ليندستروم البحَّار، قد أُودعا السجن مع بيتر، وأصبحا من أصدقائه المقرَّبين منذ ذلك الحين.

التقى بيتر أيضًا بدعاة السلام؛ «مجلس الشعب» كما يطلقون على أنفسهم. كان كثيرٌ من هؤلاء الناس متدينين، وكان اثنان أو ثلاثة منهم رجال دين، بالإضافة إلى دونالد جوردون، المنتمي إلى جماعة الأصدقاء، ونساء من أنواعٍ متعددة؛ شابات عاطفيات يجزعن من فكرة إراقة الدماء، وأمهات حفرت الدموع أخاديد في وجناتهن ولا يرغبن في أن يُجند أبناؤهن إجباريًّا. رأى بيتر على الفور أن اعتراضات هؤلاء الأمهات ليست «اعتراضات نابعة عن ضمير». فكل أم كانت تفكر في ابنها دون غيره. ضاقت نفس بيتر بطريقة التفكير هذه وكلف نفسه بمهمةٍ خاصة وهي أن يتأكد من أن يؤدي أبناء أولئك الأمهات واجبهم.

حضر اجتماعًا لدعاة السلام في منزل أحد المعلمين؛ حيث ألقَوا خطاباتٍ محزنة، وفي نهاية الاجتماع نهضت الشاعرة الصغيرة أدا روث وقالت إنها تريد أن تعرف، هل كل ما سيفعلونه هو الحديث، أم أنهم سيُنظِّمون ويُعِدون بعض الإجراءات لاتخاذها ضد التجنيد الإجباري؟ هل يمكن أن يخرجوا إلى الشارع على الأقل وينظموا موكبًا ويرفعوا لافتات الاحتجاج، ويُزَج بهم إلى السجن اقتداءً بالتصرف النبيل الذي أقدم عليه الرفيق بيتر جادج؟

دُعي الرفيق بيتر لقول «بضع كلمات»، فأوضح أنه ليس خطيبًا مفوهًا، وأن الأفعال أصدق إنباءً من الكلمات، وأنه حاول أن يتصرف وفقًا لما يؤمن به. تسببت هذه الكلمات في حرجٍ للآخرين وقرروا اتخاذ موقفٍ جريء على الفور. وانتُخبت أدا روث رئيسة «لرابطة مناهضة التجنيد الإجباري»، ودونالد جوردون سكرتيرًا لها؛ ووصلت قائمة بأسماء الأعضاء المؤسسين لهذه الرابطة إلى ماكجيفني في تلك الليلة نفسها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤