القسم الخامس والثلاثون

كانت البلاد طوال تلك الفترة تتجه صوب الحرب. وكانت الآلة العسكرية الضخمة تتجهز للعمل، وكانت عواطف الجماهير تزداد تأججًا. وصَوَّت الكونجرس لصالح الحصول على قرضٍ ضخم، وكان يجري تنظيم آلة الدعاية على مستوى البلاد، وكان صدى خطابات «رجال الدقائق الأربع» يتردد في ربوع البلاد من ماين إلى كاليفورنيا. واظب بيتر كل صباح على قراءة صحيفة «تايمز» المدينة الأمريكية التي كانت تنشُر خُطَب رجال الدولة ومواعظ رجال الدين، إلى جانب الرسوم الكاريكاتورية والمقالات الرئيسية، والتي كانت تتَّقد جميعها بالحماسة الوطنية. بعدما استوعَب بيتر هذه الأمور، تجلَّت الحقيقة في روحه. حتى هذه اللحظة، كان بيتر يعيش لنفسه فقط، ولكن يأتي وقتٌ في حياة كل إنسانٍ عاقل يدرك فيه أن الكون لا يدور حوله، وأنه ليس الغاية الوحيدة التي يجب أن يصبو إليها. كان بيتر يعاني كثيرًا من صراعاتٍ داخلية، موجات من التشكك في استقامته. فكان بيتر، مثل جميع البشر الذين عاشوا قبله، بحاجة إلى دين، إلى مثلٍ أعلى.

كان الحُمْر يعتنقون دينًا، إذا جاز التعبير، ولكنه لم يستهوِ بيتر. فبادئ ذي بدء، كان وضيعًا، وكان أتباعه يفتقرون إلى نعم الحياة، والمكانة، وتلك الراحة التي تصحب طمأنينة الأقوياء. كانوا مزعجين في تعصبهم، ونفر منهم بيتر بقدر ما نفر من الهولي رولرز. كما أنهم كانوا يتحدثون دائمًا عن الحقائق المؤلمة والمخزية للحياة، ومَن قد يتحمل الاستماع إلى «القصص المثيرة للشفقة» غير المنحرفين، رغم أنهم قد يملكون بين أيديهم جميع الأشياء العظيمة، والمبهجة، والرائعة في العالم؟

ولكن الآن كان ثمَّة دين يريده بيتر. دين الكهنة الذين يرتدون الأثواب البيضاء الثلجية ويُلقون مواعظهم في الكنائس ذات المذابح الذهبية والنوافذ الملونة؛ ورجال الدولة الذين تُحيط بهم هالة الشهرة، ويتنقلون من مكان لآخر تصحبهم هُتافات الآلاف التي ترنُّ في آذانهم؛ والقادة الصناعيين العظام هؤلاء الذين كان لأسمائهم تأثير السحر؛ إذ كانوا يملكون القدرة على إنشاء مدن وسط الصحاري ثم تسويتها بالأرض مجددًا تحت وابلٍ من القذائف والغاز السام، بمجرد التوقيع بأسمائهم على حفنة من الأوراق؛ ومحرري جريدة «تايمز» المدينة الأمريكية ورسامي كاريكاتيراتها، بكل ذكائهم وثقافتهم؛ اقترن كل أولئك الناس لإنشاء دين ومثالٍ أعلى لبيتر، ثم تسليمه له جاهزًا ومناسبًا تمامًا لقدرته على الفهم. سيستمر بيتر في فعل الأمور التي دائمًا ما فعلها سابقًا، ولكنه لن يفعلَها بعد الآن من أجل بيتر جادج، النملة التي لا تساوي شيئًا، بل سيفعلها من أجل أمةٍ عظيمة تضم مائة وعشرة ملايين مواطن، بكل ذكريات ماضيها الثمينة وآمالها المستقبلية التي لا حدود لها؛ سيفعل تلك الأمور باسم الوطنية المقدَّس، وباسم الديمقراطية الأكثر قدسية. وفي ظل تلك الظروف، سيستمر رجال الأعمال الكبار في المدينة الأمريكية، الذين أنشَئوا مكتب الخدمة السرية الذي يترأسه جوفي، في ضخ الأموال، وسيدفعون لبيتر خمسين دولارًا أسبوعيًّا بالإضافة إلى المصروفات أثناء خدمته للقضية المقدَّسة!

كانت العادة في تلك الأيام أن يتنافس الخطباء والعامة في إطلاق تعبيرات تصف أعلى مراتب الوطنية، وكان بيتر يقرأ هذه العبارات ويحفظها، وشعر أنها أصبحت جزءًا لا يتجزأ من شخصيته، وشعر أنها كانت من قريحته هو. أصبح شرهًا للمزيد والمزيد من هذا الغذاء الروحي، ولم يكن إمداد هذا الغذاء الروحي ينقطع أبدًا، حتى تضخَّمت روح بيتر، وانتفخت وكأنها نُفخت بمنفاخ. أصبح بيتر أكثر الوطنيين وطنية، أصبح وطنيًّا خارقًا، كان بيتر أمريكيًّا متحمسًا لانتمائه ولم يُولد وفي فمه ملعقة من ذهب؛ كان بيتر «أمريكيًّا حقيقيًّا»، أمريكيًّا بنسبة ١٠٠٪ – ولو كان ثمة أمريكي بنسبة مائة وواحد بالمائة، لكان بيتر هذا الأمريكي. كان بيتر أمريكيًّا لدرجة أن مجرد رؤية شخص أجنبي تملأ نفسه بالرغبة في القتال. أما فيما يخص الحُمْر، فقد ظل بيتر يبحث لفترة طويلة قبل أن يصل أخيرًا إلى صيغة تعبر عن مشاعره نحوهم. وكان رجلُ دين شهير هو مَن صاغ له تلك الصيغة، فكان يقول إنه لو كان الأمر بيده، لجمع جميع الحُمْر ووضعهم في سفينةٍ مصنوعة من الحجر بأشرعة من الرصاص وأرسلهم إلى الجحيم.

كان الضيق يزداد في نفس بيتر أكثر فأكثر بسبب عجزه عن فعل أي شيء. ما مقدار الأدلة الإضافية التي تحتاج إليها الخدمة السرية لشركة تراكشن تراست؟ ظل بيتر يطرح هذا السؤال على ماكجيفني مرارًا وتكرارًا، وكان ماكجيفني يُجيبه: «هدئ من روعك. أنت تحصل على راتبك كل أسبوع. ماذا دهاك؟»

فكان بيتر يقول: «ما دهاني أنني ضقتُ ذرعًا بالاستماع إلى ثرثرة هؤلاء الرفاق. أريد أن أُخرِس أفواههم.»

نعم، كان بيتر قد بدأ في اعتبار استمرار أولئك الراديكاليين في التنديد بالقضية التي اعتنقها إهانةً شخصية له. كانوا جميعهم يعتبرون بيتر رفيقًا لهم، وأصبحوا أكثر ودًّا معه، ولكن بيتر كان يعرف كيف سينظرون إليه عندما يكتشفون الحقيقة، وكان هذا الازدراء الذي يتخيله يحرقه مثل الحمض. كان يدور في بعض الأحيان حديثٌ عن الجواسيس والمخبرين، وحينئذٍ كانوا جميعًا يستعرضون كامل مفرداتهم من السباب، وبالطبع كان بيتر يطبق كل كلمة منها على نفسه ويستشيط غضبًا. كان يتوق للرد، وكان ينتظر اليوم الذي سيقتص فيه لنفسه وقضيته عبْر لَكْم أولئك الحُمْر في الفم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤