القسم الثامن والثلاثون
في تلك اللحظة، نهض الاثنان واتجها ناحية المصعد، وتبعهما بيتر، ولكنه لم يجرؤ على الدخول إلى المصعد معهما؛ فقد تذكر فجأة الشخصية التي كان يتقمصها لكي يؤدي دوره باعتباره داعية بروليتاريًّا للسلام! ولكن بيتر كان واثقًا من أن نيل ومرافقها ليسا في طريقهما للخروج من المبنى لأنهما لم يرتديا القبعات أو المعاطف؛ فهبط إلى الطابق السفلي وبحث عنهما في البهو وقاعة الطعام، ثم هبط إلى القبو الذي سمع أصداء موسيقى آتية منه. كانت هناك قاعةٌ ضخمة أخرى مزينة على طرازٍ شرقي غامض، مع أضواءٍ كهربائية مخفية في كومات من الزهور المقلدة على كل طاولة. كانت هذه الغرفة تُسمى «المطعم»، وكان جزء منها عاريًا من الأثاث ليرقص فيه من في القاعة، وعلى منصةٍ صغيرة كانت هناك فرقة تعزف الموسيقى.
كانت الموسيقى التي تُعزف أغرب موسيقى سمعتها أذن بشرية! لو سمع بيتر هذه الموسيقى قبل رؤية نيل، لما فهمها، ولكن الآن أصبحت إيقاعاتها الغريبة مناسبة تمامًا لحالته الذهنية التي تعذبه. كانت هذه الموسيقى تتأوه، وكانت جلجلة وصريرًا؛ كانت تُصدر أصواتًا أشبه بقماش يتمزق بسرعة، أو مثل صافرة تنبيه بخارية على عجلة من أمرها. كانت ترفعك عاليًا نحو السماء وتعود لتلقي بك إلى أسفل سافلين. وكان كل شيء ينزلق ويتلوى، ويرتَج، ويهتز، ويقفز بحركاتٍ غريبة مُعذبة. لم يكن بيتر سيعرف كيفية الرقص على هذه الموسيقى لو لم يرَها تتجسد أمام عينَيه في صورة الحركات التي تؤديها الإلهاتُ شبه العاريات والآلهة المرتدون معاطفَ سوداء على منصة الرقص. كانت هذه الكيانات السماوية تنزلق على الأرضية مثل المتزلجين، وكانوا يتلوَّون مثل الثعابين، وكانوا يختالون مثل الديوك الرومية، ويقفزون مثل الأرانب، ويسيرون بوقار مثل الزرافات. وكانوا يشبكون أذرع بعضهم ببعض مثل دبَّين يحاول أحدهما أن يحتضن الآخر حتى الموت، وكانوا يلوون أجسادهم كما لو كانوا أفاعي بوا تحاول ابتلاع بعضها بعضًا. وبينما كان بيتر يشاهدهم ويستمع إلى موسيقاهم، اكتشف أمرًا غريبًا عن نفسه. كانت أشباح جميع أنواع الحيوانات مدفونةً بعمق في روح بيتر؛ فقد كان بيتر أفعى بوا ذات يوم، وكان ذات يوم دبًّا، وكان ذات يوم أرنبًا وزرافة، وديكًا روميًّا وثعلبًا؛ أعاد سحر هذه الموسيقى الحياة إلى هذه الكائنات الميتة في روحه. وهكذا، اكتشف بيتر معنى «موسيقى الجاز» بجميع مسمياتها الغريبة وتنوعاتها المذهلة.
اكتشف بيتر أيضًا أنه كان في السابق رجل كهوف، وأنه ضرب منافسه على رأسه بفأسٍ حجرية وجرَّ امرأته من شعرها. اكتشف كل هذا بينما كان يقف عند مدخل مطعم فندق هوتيل دي سوتو يراقب نيل، الخادمة السابقة في معبد جيمجامبو، وهي تؤدي حركات الديك الرومي، والثعلب، الدب الأشهب، والأرنب بين ذراعَي شاب يشبه كلب البولدوج.
ظل بيتر واقفًا لفترة طويلة في حالة ذهول. جلست نيل والشاب إلى إحدى الطاولات لتناول الطعام، بينما ظل بيتر واقفًا يراقب ويحاول اكتشاف ما يجدر به أن يفعله. كان يدرك أنه لا يجدُر به أن يتحدث معها بزيه الحالي، فلن تكون ثمَّة طريقة تجعلها تفهم أنه يؤدي دورًا فحسب؛ فرغم أنه كان يبدو وكأنه «ميت»، فهو في الواقع رجلٌ ثري لديه أعمالٌ مهمة، وهو وطني غيور على بلاده بنسبة مائة بالمائة متنكر في هيئة داعٍ للسلام من البروليتاريا. لا، يجب أن ينتظر، لا بد أن يرتدي أفضل ما لديه قبل أن يتحدث إليها. ولكن في الوقت نفسه، قد تختفي، وقد لا يتمكن من العثور عليها مرةً أخرى في هذه المدينة الضخمة!
بعد ساعة أو ساعتَين، نجح في التوصل إلى طريقة، فأسرع إلى غرفة الكتابة ودوَّن رسالة:
«نيل: أنا صديقك القديم بيتر جادج. لقد أصبحتُ ثريًّا ولديَّ أخبارٌ مهمة لك. تأكدي من مراسلتي. بيتر.» ثم وضع الرسالة في ظرف مكتوب عليه «الآنسة نيل دولين» وأضاف إليه عنوانه وختَمَه.
ثم خرج إلى البهو وأشار إلى أحد الخدم الصغار الذين يرتدون أزرارًا نحاسية كان يتجول في المكان مناديًا أسماء بطريقةٍ غنائية مبحوحة؛ صحب بيتر هذا الصبي إلى أحد أركان البهو ووضع ورقة من فئة الدولار الواحد في يده. ثمَّة شابة في المطعم يجب أن تتلقى هذه الملاحظة على الفور. الأمر شديد الأهمية. هل يمكن أن يؤدي الخادم ذو الأزرار النحاسية تلك المهمة؟
قال الخادم الصغير إنه سيفعل بالتأكيد، ووقف بيتر عند المدخل يراقبه وهو يجوب أروقة المطعم ذهابًا وإيابًا مناديًا بصوته الأشبه بالنعيق: «الآنسة نيل دولين! الآنسة نيل دولين!» مر بجوار الطاولة التي كانت نيل تجلس إليها تأكل؛ وصاح في وجهها مباشرةً، أو هكذا بدا الأمر لبيتر، ولكنها لم يبدُ على ملامحها أي اختلاج.
لم يكن بيتر يدري ما عليه أن يفعل، ولكنه كان مُصِرًّا على أن تحصل نيل على تلك الرسالة. لذا، عندما عاد الخادم، أشار نحوها، وذهب الخادم مرةً أخرى وسلمها الرسالة. رآها بيتر تأخذ الرسالة، ثم اندفع مبتعدًا، وقد تذكَّر فجأة أنه من المفترض عليه أن يكون في مهمة، وأسرع إلى مكتب الاستقبال وسأل عن السيد لاكمان. ولكن تملكه الرعب عندما عرف أن السيد لاكمان عاد، ودفع فاتورته، وغادر بحقيبته إلى وجهةٍ مجهولة!