القسم الرابع
كان المبنى متجرًا كبيرًا فتحتْه الشرطة ليكون مركزًا لعملياتها. وفي داخله كان ثمَّة أشخاصٌ مصابون ملقَون على الأرض، وأطباء وأشخاصٌ آخرون يداوونهم. قاد الشرطيان بيتر عبْر الممر، وأُدخِل إلى غرفةٍ حيث كان هناك رجالٌ آخرون يجلسون أو يقفون، وكانوا في حالة انهيار مثله؛ أشخاص لم يتمكَّنوا من إقناع الشرطة ببراءتهم فتحفَّظت عليهم.
ثبَّت الشرطيان بيتر إلى الجدار وبدآ في تفتيش جيوبه مُخرجين محتوياتها المخزية؛ قطعةَ قماشٍ متَّسخة، وعقبَي سيجارتَين التقطهما من الشارع، وغليونًا مكسورًا، وساعةً كانت تساوي ذات يومٍ دولارًا، ولكنها الآن أصبحت معطَّلة ومتضرِّرة لدرجة أنه لا يمكن رهنها. كان ذلك كل ما لديهم الحق في تفتيشه، على حد علم بيتر. ولكن خرج من جيوبه شيءٌ آخر؛ النشرة المطبوعة التي كان بيتر قد وضعها في جيبه. ألقى الشرطي الذي أخرجها نظرةً عليها، ثم صاح: «يا إلهي!» وحدَّق في وجه بيتر، ثم إلى الشرطي الآخر وأعطاه الورقة.
في تلك اللحظة، دخل الرجل الذي لا يرتدي الزيَّ الرسميَّ الغرفة، فصاح الشرطي مخاطبًا إياه: «سيد جوفي! انظر!» أخذ الرجل الورقة، وألقى نظرةً عليها، ورأى بيتر، الذي كان يرمقهم بعيونٍ ذاهلةٍ شاردة، مشهدًا مرعبًا للغاية. بدا الأمر وكأن الرجل جُنَّ فجأة. حدَّق في وجه بيتر، وبدت عيناه الكبيرتان من تحت حاجبَيه الأسودَين وكأنهما على وشك القفز من محجرَيْهما.
ثم صرخ قائلًا: «أها! لقد أمسكتُ بك!» كانت يده التي تحمل الورقة ترتجف، ومد يده الأخرى كمخلبٍ كبير، وأنشَبها في ياقة معطف بيتر وضم طرفَيها معًا حتى شعر بيتر بالاختناق، وقال الرجل بصوتٍ كالفحيح: «أنت الذي ألقيتَ بتلك القنبلة!»
شهق بيتر، وقال بصوتٍ يكاد يختنق: «ﻣ… ماذا؟ ﻗ… ﻗ… قنبلة؟»
صاح الرجل مقربًا وجهه من وجه بيتر، وأسنانُه تلمع وكأنه كان على وشك أن يقضم أنف بيتر: «اعترِف. اعترِف! أسرِع! مَن ساعدك؟»
قال بيتر: «يا إلهي! لا أعرف ما تعنيه.»
نهرَه الرجل قائلًا: «أتجرُؤ على الكذب عليَّ؟» ثم رجَّ بيتر كما لو كان يريد أن يُخرج أسنانه من فمه، وقال: «توقَّف عن الهراء على الفور! مَن ساعدَك في صنع تلك القنبلة؟»
ارتفَع صوت بيتر وتحوَّل إلى صرخة رعب وهو يقول: «لم أرَ أيَّ قنبلة في حياتي! لا أعرف عمَّا تتحدث!»
قال الرجل: «أنت، تعالَ معي»، واتجه فجأة نحو الباب. ربما كان من الأسهل لو أنه كان قد أدار بيتر حول نفسه، وأمسكه من ياقة معطفه من الخلف؛ ولكن من المؤكَّد أنه كان يرى أن جسم بيتر ضئيلٌ للغاية لا يستحق وضعه في الاعتبار؛ فكل ما فعلَه أن قَبض على صدر سترة بيتر، ورفَعه لنصف المسافة نحو خارج الغرفة وألقى به على طول نصفها الآخر، وعلى طول مَمرٍّ طويل يؤدي إلى الجزء الخلفي من المبنى. طوال تلك الفترة، كان يُقرِّب وجهَه من وجه بيتر ويُحادثه بصوتٍ كالفحيح قائلًا: «سأجعلك تتحدث! لا تظن أنك قادرٌ على الكذب عليَّ! عليكَ أن تعيَ ذلك جيدًا، ستتحدَّث لا محالة!»
فتح الرجل بابًا. كان باب مخزنٍ ما، ودفَع بيتر إلى الداخل وأغلَق الباب خلفه. ثم قال الرجل: «الآن، تحدَّث!» دسَّ الرجل يده في جيبه وأخرج النشرة المطبوعة، أو أيًّا كانت؛ لم يرَ بيتر تلك النشرة مرةً أخرى، ولم يكن يعرف ما كان مطبوعًا عليها. أمسك الرجل إحدى يدَي بيتر بيده الخالية، أو بالأحرى بإحدى أصابع يده، وثناها فجأةً إلى الخلف بعنفٍ مُفرِط. أطلق بيتر صرخةً عالية وقال: «آه! توقَّف!» ثم أطلق عُواءً وحشيًّا وقال: «ستكسرها.»
«أنا أقصد كسرها! وسأكسر كل عظمة في جسدك! وسأقتلع أظافرك؛ وسأقتلع عينَيك من محجرَيْهما، إن اضطُررتُ لذلك! وستُخبرني مَن ساعدك في صنع تلك القنبلة!»
انخرط بيتر في عاصفة من الاحتجاج المتألم؛ لم يكن قد سمع عن أي قنبلة، ولا يعرف عما يتحدث الرجل؛ كان يتلوَّى ويتقلَّب ويُلقي بنفسه إلى الخلف محاولًا تجنُّب الألم المروِّع الضاغط على إصبعه.
قال جوفي في إصرار: «أنت تكذب! أعرف أنك تكذب. أنت أحد أفراد تلك العصابة.»
«أي عصابة؟ آه! لا أعرف ماذا تعني!»
«أنت أحد الحُمْر، ألست كذلك؟»
«الحُمْر؟ ومن يكون الحُمْر؟»
«هل تقول إنك لا تعرف من هم الحُمْر؟ ألم تكن تُوزِّع تلك المنشورات في الشارع؟»
قال بيتر مكررًا: «لم أرَ تلك النشرةَ من قبل! لم أقرأ كلمةً منها ولا أعرف ماذا تكون.»
«هل تُحاول خداعي بهذا الكلام؟»
«أعطتني امرأة تلك النشرة في الشارع! آه! توقَّف! يا إلهي! أقول لك إنني لم أنظر إلى النشرة مطلقًا!»
انتابت الرجل نوبةُ غضبٍ جديدة، وصرخ قائلًا: «هل تجرؤ على الاستمرار في الكذب؟ أتعلم، لقد رأيتُك مع أولئك الحُمْر؟ أعرف المؤامرة التي تَحيكونها، وسأجعلك تتكلم.» ثم أمسك بمعصم بيتر وبدأ يلويه، كاد بيتر يقلب نفسه على ظهره في محاولة منه لحماية نفسه، وصرخ مرةً أخرى بصوتٍ أكثر حدَّة قائلًا: «لا أعرف! لا أعرف!»
سأله الرجل: «ماذا فعل لك هؤلاء الرجال حتى تحميهم؟ ما الخير الذي سيعود عليك إذا شنقناك وتركناهم يهربون؟»
ولكن كل ما فعله بيتر هو أن صرخ وبكى بصوتٍ أعلى.
قال الرجل في إصرار: «سيتوفَّر لهم الوقت الكافي للخروج من المدينة. إذا تكلمتَ بسرعة، فسيمكننا أن نقبض عليهم جميعًا، ثم سأدعك تذهب. افهم ما أقول، لن نمسَّ شعرةً منك إذا ما كنتَ صريحًا وأخبرتَنا بهُوية مَن دفَعك للإقدام على هذه الفعلة. نعلم أنك لستَ مَن خطَّط لهذه العملية؛ نحن نريد القادة.»
بدأ الرجل في استمالة بيتر وترغيبه؛ ولكن عندما كان بيتر يُجيبه بعبارة «لا أعرف» المزعجة، كان يلوي معصمه، وكان بيتر يصرخ، ويكاد يفقد وعيه من فَرْط الرعب والألم، لكنه ظل يقول إنه لا يستطيع أن يخبر الرجل بشيءٍ لأنه لا يعرف شيئًا عن أي قنبلة.
لذا، في نهاية المطاف، تعب جوفي من هذا التحقيق العقيم؛ أو ربما تذكَّر أنه في مكانٍ عام لا يصلح لإجراء تحقيق من «الدرجة الثالثة»؛ فقد يكون هناك من يتنصَّت على الجهة الأخرى من الباب، فتوقف عن ليِّ معصَم بيتر وأمال رأس بيتر للخلف حتى أصبحت عيناه المرتعبتان تُحدِّقان به.
قال جوفي: «اسمع أيها الشاب. ليس لديَّ وقت لأُضيعَه عليك، ولكنك ستذهب إلى السجن، أنت سجيني، وتذكَّر دائمًا، سأحصل على ما أريد منك إن عاجلًا أو آجلًا. قد يستغرق ذلك يومًا، أو قد يستغرق شهرًا، لكنك ستخبرني عن مؤامرة تلك القنبلة، وعمَّن طبع هذا البيان المعارض لحالة التأهب، وبكل شيء عن هؤلاء الحُمْر الذين تعمل معهم. أنا أخبرك بذلك الآن؛ لذا فكِّر في الأمر جيدًا؛ وخلال ذلك، أطبِق فمك، ولا تقل كلمةً واحدة لأي إنسان، وإذا فعلتَ فسأقتلع لسانك من حلقك.»
ثم، دون أن يهتم بصرخات بيتر، أمسك ياقته من الخلف ودفعه عبْر الردهة مجدَّدًا، وسلَّمه إلى أحد رجال الشرطة، وقال: «خذ هذا الرجل إلى سجن المدينة، وضعه في الحفرة، واتركه فيها حتى آتي، ولا تدَعْه يتحدَّث مع أي شخص، وإذا حاول أن يفعل، فحطِّم فمه.» ومن ثَم، أمسك الشرطي بيتر الباكي من ذراعه وسار به إلى خارج المبنى.