القسم الرابع والأربعون

بدأ الصباح يُشرق والعصافير تُغرِّد. وسقطت أشعة الشمس على وجه بيتر الشاحب بفعل الإرهاق واختفت التفاحتان الأيرلنديتان الحمراوان من وجنتَي نيل. ولكن وقت العمل كان قد حان، فذهب بيتر لمراقبة منزل ماكورميك حتى تحل الساعة السابعة، الوقت الذي كان من المفتَرض وصول الخطاب المستعجل فيه.

وصل الخطاب في الوقت المحدَّد، ورأى بيتر ماكورميك يخرج من منزله ويسير في اتجاه الاستوديوهات. كان الوقت يسبق موعد الاجتماع بفترة طويلة، ففكَّر بيتر أنه سيتوقف لتناول إفطاره، وهذا ما حدث بالفعل؛ فقد توقف «ماك» لتناول وجبةٍ صغيرة من منتجات الألبان، فأسرع بيتر إلى أقرب هاتف واتصل برئيسه.

قال بيتر عبْر الهاتف: «سيد ماكجيفني، لقد فقدتُ أثر أولئك الرجال ليلة أمس، ولكني عثَرتُ عليهم مجددًا. يبدو أنهم قرَّروا عدم فعل شيء حتى اليوم. إنهم يعقدون اجتماعًا صباح اليوم وبين أيدينا فرصةٌ ذهبية للقبض عليهم جميعًا.»

سأله ماكجيفني: «أين؟»

«الغرفة السابعة عشرة في الاستوديوهات، ولكن لا تدع أيًّا من رجالك يقترب من المكان حتى أتأكد من تجمُّع الرجال المطلوبين.»

صاح ماكجيفني: «اسمع يا بيتر جادج! هل ما تقوله صحيح؟»

صاح بيتر: «يا إلهي! ما فكرتك عني؟ أقول لك إن معهم الكثير من الديناميت.»

«ماذا فعلوا به؟»

«إنهم يحتفظون ببعضه في مقرهم. أما البقية فلا أعرف عنها شيئًا. لقد نقلوه ثم فقدتُ أثرهم ليلة أمس. ولكني عثرتُ بعد ذلك على رسالة في جيبي؛ كانوا يدعونني للمشاركة.»

صاح الرجل ذو وجه الجرذ: «يا إلهي!»

«أقول لك إن الأمر برمته تحت سيطرتنا! هل جهَّزتَ رجالك؟»

«نعم.»

«حسنًا، دعْهم يأتوا إلى ناصية الشارع السابع عند تقاطُعه مع شارع واشنطن، وتعالَ أنت إلى تقاطع الشارع الثامن وشارع واشنطن. القَني هناك بأقصى سرعةٍ ممكنة.»

جاءته الإجابة: «فهمت»، وأنهى بيتر المكالمة، وانطلق إلى المكان المتفق عليه. كان متوترًا لدرجة أنه اضطُر إلى الجلوس على سلَّم أحد المباني. ومع مرور الوقت وعدم ظهور ماكجيفني، بدأت تهاجمه تخيلاتٌ جامحة. ربما لم يفهمه ماكجيفني على النحو الصحيح! أو ربما تعطلت سيارته! أو ربما خرج هاتفه من الخدمة في تلك اللحظة الحاسمة! سيصل ورجاله متأخرين للغاية، وسيجدون الفخَّ خاليًا، والفريسة قد هربت.

مرَّت عشر دقائق، ثم أصبحت خمس عشرة دقيقة، ثم عشرين دقيقة. وفي نهاية المطاف، جاءت سيارة تنطلق عبْر الشارع، وخرج منها ماكجيفني، ثم انطلقت السيارة مجددًا. تأكَّد بيتر من أن ماكجيفني رآه، ثم تراجَع ليتوارى في مدخل أحد الأبواب، وتبعه ماكجيفني الذي صاح قائلًا: «هل وصلوا؟»

تلعثم بيتر وهو يقول: «لا … لا … لا أعرف! ﻗ… ﻗ… قالوا إنهم ﺳ… ﺳ… سيأتون في الثامنة!»

قال ماكجيفني آمرًا: «دعْني أرى تلك الرسالة!» فأخرج بيتر واحدةً من رسائل نيل التي احتفظ بها معه:

«إذا كنتَ تؤمن حقًّا بتوجيه ضربةٍ قاصمة من أجل حقوق العمال، فقابلني في الاستوديوهات، الغرفة ١٧، صباح الغد في تمام الثامنة. لا أسماء ولا حديث. عمل فقط!»

سأله ماكجيفني: «هل وجدتَ هذه الرسالة في جيبك؟»

«ﻧ… نعم، يا سيدي.»

«ولا تملك أدنى فكرة عمن دسها فيه.»

«ﻟ… لا، ولكني أظن أنه جو أنجيل …»

نظر ماكجيفني إلى ساعته، ثم قال: «لم يتبقَّ لك إلا عشرون دقيقةً فقط.»

سأله بيتر: «هل أحضرتَ رجالك؟»

«دُزِّينة منهم. ماذا تقترح الآن؟»

تلعثَم بيتر وهو يعرض اقتراحه. كان هناك متجرُ بقالة صغير عبْر الشارع على الجهة المقابلة لمدخل مبنى الاستوديوهات. سيذهب بيتر إلى البقالة، ويتظاهر بشراء شيءٍ ما ليأكله، وسيراقب عبْر النافذة، وعندما يرى الرجال المطلوبين يدخلون، سيخرج سريعًا ويعطي إشارة لماكجيفني الذي سيكون في صيدلية على الناصية المقابلة. ويجب أن يبقى ماكجيفني بعيدًا عن الأنظار؛ لأن «الحُمْر» يعرفون أنه أحد عملاء جوفي.

لم يكن من الضروري تكرار أيٍّ مما قيل مرةً أخرى. فقد كان ماكجيفني متحمسًا وجاهزًا للعمل، وأسرع بيتر عبْر الشارع، ودخل المتجر الصغير دون أن يراه أحد. طلب بعض البسكويت والجبن وجلس على صندوق بجوار النافذة يتظاهر بأنه يأكل. ولكن كانت يداه ترتجفان لدرجة أنه لم يستطع أن يضع الطعام في فمه، وكان هذا جيدًا لأن فمه كان جافًّا من الخوف، والبسكويت والجبن ليسا طعامًا يناسب هذه الحالة.

لم يرفع بيتر عينَيه عن مدخل الاستوديو المظلم، وبعد قليل — مرحى! — رأى ماكورميك يسير في الشارع! ثم دخل الفتى الأيرلندي المبنى، وبعد بضع دقائق وصل جوس البحَّار، وقبل أن تمُر خمسُ دقائق أخرى وصل جو أنجيل وهندرسون، اللذان كانا يسيران بسرعة مشغولين بمحادثة تدور بينهما، وتخيَّل بيتر أنه سمعهما يتحدثان عن تلك الرسائل الغامضة، ومَن كتبها، وماذا تعني؟

كان بيتر يشعر بتوترٍ شديد، فكان يخشى أن يراه أحد في المتجر، وحاول جاهدًا أن يركِّز على أكل البسكويت والجبن وتناثر الفتات على جسده بالكامل وعلى الأرض. هل ينتظر وصول جيري رود، أم يكتفي بمن وصلوا بالفعل؟ كان قد نهض من جلسته وبدأ يسير نحو الباب عندما رأى ضحيته الأخيرة تسير في الشارع. كان جيري يسير ببطء، ولم يستطع بيتر الانتظار حتى يدخل. مرَّت سيارة في الشارع، فاستغل بيتر الفرصة للخروج من متجر البقالة والركض نحو الصيدلية. قبل أن يصل بيتر إلى منتصف المسافة إلى الصيدلية، كان ماكجيفني قد رآه وبدأ يركض نحو ناصية الشارع التالي.

لم ينتظر بيتر طويلًا حتى رأى عددًا من السيارات تنطلق عبْر الشارع، كانت مليئة بالمحقِّقين الضخام. ثم استدار وبدأ يسير مسرعًا في شارعٍ جانبي. تمكَّن بيتر من الابتعاد لبضعة مبانٍ قبل أن تنهار أعصابه تمامًا، فجلس على حافة رصيف وبدأ يبكي؛ كان يبكي مثلما بكت الصغيرة جيني عندما أخبرها أنه لا يستطيع الزواج منها! توقَّف المارة يحدِّقون به، واقترب منه رجلٌ مُسِن طيب القلب وربَّت على كتفه وسأله عن مشكلته. فنَشج بيتر، دون أن يبعد أصابعَه الملطَّخة بالدموع عن وجهه، وقال: «ﻣ… ﻣ… ماتت أمي!» فتركه المارة وشأنه، ثم نهض بعد قليل وسار مسرعًا مرةً أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤