القسم الخامس والأربعون
دخل بيتر في حالة من الكآبة الشديدة. فقد كان يدرك أنه سيُضطر لمواجهة ماكجيفني، ولم يكن قادرًا على تحمل ذلك. لم يكن يريد رؤية أحدٍ سوى نيل، وكانت نيل تدرك أنه سيحتاج إلى رؤيتها، فاتفقت معه على أن يلتقيَها في المنتزه في الثامنة والنصف. ونبَّهته ألا يتحدث إلى أحد قبل أن يتحدث إليها. وفي الوقت نفسه، كانت قد عادت إلى منزلها وجدَّدت حُمرة شفتَيها الأيرلنديتَين بأحمر شفاه فرنسي، واستعادت حيويتها بالقهوة والسجائر، وها هي الآن جالسة في المنتزه تنتظره راسمةً على شفتَيها ابتسامة وديعة، منتعشةً كحال جميع طيور وزهور المنتزه في ذلك الصباح الصيفي. سألته بنبرةٍ هادئةٍ عما آلت إليه الأمور، وعندما بدأ بيتر يتلعثم قائلًا إنه لا يعتقد أنه قادر على مواجهة ماكجيفني، بدأت في تعزيز شجاعته مجددًا. فسمحت له بأن يطوِّقها بذراعَيه، مع أن ذلك كان في وضَح النهار؛ همست له أن يتماسك، وأن يكون رجلًا، وأن يكون جديرًا بها.
ما الذي كان يخشاه بيتر على أي حال؟ لا يملك أحدٌ أي شيء يدينه، ولا تُوجَد أي طريقة يمكن لأحد بها أن يتوصل إلى أي شيء يدينه. كانت يداه نظيفتَين، وكل ما عليه فعله هو الصمود، ويجب أن يقرر مسبقًا أنه لن ينهار أبدًا مهما حدث، ولن يحيد أبدًا عن القصة التي تدرَّب عليها مع نيل. جعلته نيل يُعيد القصة مرةً أخرى؛ أنهم تحدَّثوا في الليلة السابقة، خلال الاجتماع في مقر اتحاد العمال الصناعيين العالمي، عن قتل نيلس أكيرمان كوسيلة لإنهاء الحرب. وبعد انتهاء النقاش، سمع جو أنجيل يهمس لجيري رود أن لديه مكوِّنات قنبلة بالفعل؛ كانت لديه حقيبةٌ مليئة بالديناميت مخزَّنة في الخزانة، وأنه وبات ماكورميك يخططان لفعل شيءٍ ما في تلك الليلة نفسها. كان بيتر قد خرج من المبنى، ولكنه وقف خارجه يراقب، ورأى أنجيل، وهندرسون، ورود، وجوس يخرجون.
كان بيتر قد لاحظ أن جيوب أنجيل منتفخة، وافترض أنهم بصدد تنفيذ عملية التفجير، فاتصل بماكجيفني من الصيدلية. وبسبب هذا الاتصال، فقَد أثر المجموعة، وشعر بالخجل والخوف من أن يُخبر ماكجيفني بذلك، وقضى الليل بطوله يتجول في المنتزه. ولكن في ساعة مبكرة من الصباح، عثَر على الرسالة وأدرك أنها لا بد وأن تكون قد دُسَّت في جيبه، وأن المتآمرين يريدونه أن يشارك في مخطَّطهم. كانت هذه القصة كاملةً، فيما عدا ثلاثًا أو أربع جمل أو أجزاء من جُمل سمعها بيتر تُقال بين جو أنجيل وجيري رود. جعلته نيل يحفظ هذه الجمل عن ظهر قلب، وأصرَّت على أنه يجب ألا يحاول تذكُّر أي شيءٍ آخر أو يسمح لأحد بأن يقنعه بذلك أيًّا كانت الظروف.
وأخيرًا، رأت نيل أن بيتر أصبح جاهزًا لمواجهة هذه المحنة، فذهب إلى الغرفة ٤٢٧ في فندق البيت الأمريكي، وألقى بجسده على الفراش. كان مرهقًا لدرجة أنه غفا لمرة أو مرتَين؛ ولكن كان ذهنه منشغلًا بالأسئلة الجديدة التي قد يطرحها عليه ماكجيفني، فكان يستفيق من غفوته فجأة. وفي نهاية المطاف، سمع صوت مفتاح يدور، فاستيقظ. دخل أحد المحققين، رجل يدعى هاميت. قال هاميت: «مرحبًا يا جادج، يريد الرئيس أن ألقي القبض عليك.»
صاح بيتر: «تقبض عليَّ! يا إلهي!» تخيَّل نفسه فجأة محبوسًا في زنزانة مع هؤلاء الحُمْر مجبرًا على الاستماع إلى «قصص الحظ العَسِر».
قال هاميت: «إننا نُلقي القبض على جميع الحُمْر، وإذا تجاهلناك، فستُساوِرهم الشكوك. من الأفضل أن تذهب إلى مكانٍ ما الآن ويُقبض عليك.»
رأى بيتر أن الفكرة منطقية، وبعد التفكير قليلًا اختار منزل ميريام يانكوفيتش. كانت ميريام واحدةً من الحُمْر المخلصين ولم تكن تُحبه، ولكن إذا قُبِضَ عليه في منزلها، فستُضطر إلى أن تُحبه؛ الأمر الذي سيثبت أنه «يساري قلبًا وقالبًا». أعطى بيتر العنوان لهاميت، وأضاف: «من الأفضل أن تأتي بأسرع ما يمكن؛ لأنها قد تطردني من المنزل.»
رد عليه هاميت قائلًا: «حسنًا، أخبرها أن الشرطة تُطارِدك واطلب منها أن تخفيك.»
وهكذا أسرع بيتر إلى الحي اليهودي في المدينة وطرق بابًا في الطابق العلوي لمبنًى سكني. فتحت الباب امرأةٌ بدينة شمَّرت أكمامها وكانت ذراعاها مُغطَّاتَين برغوة الصابون. كانت ميريام في المنزل. قالت السيدة يانكوفيتش إنها أصبحت عاطلة عن العمل في الوقت الحالي. فقد أُقيلت لأنها كانت تُروِّج للاشتراكية. دخلت ميريام الغرفة، ورمقت الزائر غير المتوقع بنظرة غير ودودة تقول بوضوح: «جيني تود!»
ولكن أسلوب تعاملها معه هذا تغيَّر على الفور عندما أخبرها بيتر أنه كان في مقر اتحاد العمال الصناعيين العالمي ووجد الشرطة تُغير على المكان. لقد داهمت الشرطة المقر وادَّعوا أنهم كشفوا مؤامرةً ما، ولحسن الحظ، رأى بيتر التجمهر خارج المقر، فلاذ بالفرار. صَحِبته ميريام إلى غرفة داخل المنزل، وطرحت عليه سيلًا من الأسئلة لم يستطع الإجابة عنه. لم يكن يعرف شيئًا سوى أنه حضر اجتماعًا في المقر الليلة الماضية، وفي الصباح ذهب إلى هناك ليحصل على كتاب ورأى التجمهر، ففر.
بعد نصف ساعة، سمعا طرقًا قويًّا على الباب، فاختبأ بيتر تحت السرير. انفتح الباب بعنف، وسمع أصواتًا تُوجِّه أوامر، واحتجاجات حادة من ميريام ووالدتها. ودلت الأصوات التي كان يسمعها على أن الرجال كانوا يرمون الأثاث يمنةً ويسْرة، وفجأة، امتدَّت يد تحت السرير، وأمسكت بيتر من كاحله، وسحبته ليجد نفسه في مواجهة أربعة رجال شرطة بزيهم الرسمي.
كان موقفًا مخيفًا؛ فعلى ما يبدو لم يُخبر أحد رجال الشرطة هؤلاء أن بيتر جاسوس؛ فقد كانوا يظنون أنهم أمسكوا بأحد المدبرين الحقيقيين لمؤامرة التفجير! أمسك أحدهم بمعصمَي بيتر، وثبَّته آخر في مكانه، وهُدِّدت ميريام بمسدس، بينما بدأ الرابع في تفتيش جيوبه بحثًا عن قنابل. عندما لم يجدوا شيئًا في جيوبه، بدا عليهم الضيق، فبدءوا يضغطون عليه ويهددونه موضحين أنهم سيكونون سعداء إذا ما منحهم ذريعةً ليحطموا رأسه. حرص بيتر على ألا يمنحهم هذه الذريعة؛ كان خائفًا مطأطئ الرأس، وظل يخبرهم بأنه لا يعرف شيئًا، وبأنه لم يتسبب في أي أذًى.
قال الضابط وهو يُحكِم الأصفاد على معصمَي بيتر: «سنرى، أيها الشاب!» ثم، ظل أحدهم يراقبه موجهًا إليه مسدسًا، بينما بدأ الثلاثة الآخرون يفتشون المكان، فكانوا يُخرجون أدراج المكتب من مكانها ويُلقون بمحتوياتها هنا وهناك، وأخذوا كل قصاصة ورق كُتِبَ عليها شيء وكدَّسوها في حقيبتَين. كانت ثمَّة كتبٌ بأغلفةٍ حمراء وعناوينَ مخيفة، ولكنهم لم يعثُروا على قنابل، ولم تكن هناك أسلحةٌ أكثر خطورة من سكين النحت ولسان ميريام. وقفت الفتاة في مكانها وعيناها السوداوان تتقدان شرًّا، وأخبرت رجال الشرطة صراحةً برأيها فيهم. لم تكن تعرف ما حدث في مقر اتحاد العمال الصناعيين العالمي، لكنها كانت تعرف أنه مهما حدث، فلن يتخطى الأمر كونه مجرد تلفيق للتهم، وتحدَّتهم أن يعتقلوها، وكادت تنجح في تحقيق هدفها الجامح. ولكن اكتفى رجال الشرطة بقلب حوض الغسيل ومحتوياته، وغادروا المكان تاركين السيدة يانكوفيتش تصرخ وسط فيضان.