القسم الخامس
بحلول ذلك الوقت، كانت الشرطة قد أجبَرت الحشود على التراجُع، ومدَّت حبالًا عبْر الشارع لمنعها عن التقدم، وداخل المساحة التي تحوطها الحبال، كانت تقف عدة سيارات إسعاف وبضع عربات دورية. أُلقي بيتر داخل واحدة من عربات الدورية، وجلس شرطي بجانبه، ورنَّ جرسها، واضطُرت عربة الدورية للتقدم ببطء عبْر الحشد الكثيف. بعد نصف ساعة، وصلوا إلى سجن ضخم مبني بالحجارة، واقتيد بيتر إلى داخله. لم تكن هناك أي إجراءاتٍ رسمية، ولم يُدخلوا بيتر في سجلاتهم، أو يأخذوا اسمه أو بصمات أصابعه؛ فقد تلقَّوا الأوامر من سلطةٍ أعلى، وتحدَّد مصير بيتر بالفعل. اقتيد بيتر إلى مصعدٍ هبط به إلى القبو، ثم اقتيد لهبوط درَجٍ حجري يؤدي إلى قبوٍ أعمق، وكان هناك بابٌ حديدي به فتحةٌ صغيرة بعرض بوصة وطول ست بوصات قرب قمته. كانت هذه هي «الحفرة». فُتِحَ الباب، ودُفع بيتر عبْره إلى ظلامٍ تام. ثم انغلق الباب خلفه بدوِي، وأصدرت مزاليجه صريرًا؛ ثم ساد الصمت. سقط بيتر على أرضٍ حجرية باردة ككومة من البؤس الشنيع والمروِّع.
وقعت كل تلك الأحداث بسرعةٍ مرعبة لدرجة أن بيتر جادج لم يمتلك الوقت الكافي لتتبُّعها. ولكن الآن، أصبح يملك الكثير من الوقت، في الواقع، لم يكن يملك شيئًا سوى الوقت. يمكنه التفكير في الأمر من جميع جوانبه وإدراك الخدعة الرهيبة التي لعبَها القدَر عليه. ظل راقدًا في مكانه، والوقت يمُر؛ لم يكن يملك طريقةً لقياسه، ولم يكن يملك أدنى فكرة عمَّا إذا كانت قد مرَّت ساعات أو أيام. كانت الزنزانة الحجرية باردة ورطبة؛ كانوا يُطلِقون عليها اسم «المبرِّد»، وكانوا يستخدمونها لتهدئة المجرمين الذين يتَّسمون بالعنف والعناد. كانت وسيلةً لتجنُّب المتاعب؛ كان كل ما يفعلونه هو أن يتركوا الرجل في داخلها وينسَوا أمره، وسيؤدي عقلُه المعذَّب الباقي.
ومن المؤكد أنه لم يوضع عقل أكثر عذابًا من عقل بيتر جادج في تلك الحفرة السوداء. كان وضعه أكثر فظاعةً لأن ما حدث له لم يكن مستحقًّا أو معقولًا على الإطلاق. لم يكن معقولًا أن يحدث ذلك له هو، بيتر جادج، من بين جميع الناس؛ فقد كان يسعى جاهدًا لتجنُّب أي شيء قد يؤرق حياته، وكان على استعدادٍ دائم لإرضاء أي شخص وفعل أي شيء يؤمر به، فقط لكي يعيش حياةً سهلة، ويحصل على ما يكفيه من الطعام، ويمتلك ركنًا دافئًا يزحف إلى داخله! ما الذي أقنع القدَر بأن يختاره ضحيةً لهذه الخدعة القاسية؛ أن يضعه في هذا الموقف العصيب حيث لا يستطيع تجنُّب المعاناة بغضِّ النظر عما يفعل؟ إنهم يريدون منه أن يخبرهم بشيءٍ ما، وكان بيتر مستعدًّا تمامًا لإخبارهم بأي شيء؛ ولكن كيف يمكنه أن يخبرهم بما لا يعرف؟
كلما زاد تفكير بيتر في الأمر، تأجَّج غضبه أكثر. كان موقفه مروعًا! جلس مكانه يُحدِّق في الظلام الدامس. وتحدث مع نفسه، وتحدث مع العالم الخارجي، ومع الكون الذي كان قد نسي وجوده. ثم غلبه الانفعال، فبكى. نهض واقفًا وبدأ يجوب أركان الزنزانة التي تبلغ مساحتُها ستَّ أقدامٍ مربعة، وكان سقفُها يسمح له بالكاد بأن يقف منتصبًا. طرَق على الباب بيده التي لم يكسرها جوفي، وركلَه، وصرخ. ولكن لا حياة لمن تنادي، فخمَّن أنه لم يكن أحدٌ يسمعه.
عندما بلغ منه الإرهاق مبلغه، انهار على الأرض وغطَّ في نومٍ أرَّقته الكوابيس؛ ثم استيقظ مجددًا على واقعٍ أسوأ من جميع كوابيسه. سيأتي ذلك الرجل الرهيب من أجله مجددًا! وسيعذبه ليجبره على إخباره بما لا يعرف! كان بيتر يرى أن ذلك المدعو جوفي لا يُقارن بجميع الأوغاد والشياطين الذين ابتكرتهم قريحة البشر لإرهاب خيال الأطفال.
بعد مرور مدةٍ طويلة للغاية من حبس بيتر، سمع أصواتًا آتية من الخارج، وفُتِح باب الزنزانة. كان بيتر يقف مرتجفًا في أحد الأركان معتقدًا أن جوفي قد أتى. سمع صوت صرير على الأرض، ثم سمع صوت الباب يُغلق مجددًا، وساد الصمت. تقصَّى بيتر الأمر واكتشف أنهم وضعوا قطعة خبز ووعاء ماء.
ثم مرَّت مددٌ طويلة أخرى، وتكرَّرت نوبات غضب بيتر التي لم تثمر شيئًا؛ ثم أحضَروا له الخبز والماء مرةً أخرى، فتساءل بيتر، هل كانوا يُحضِرون الخبز والماء مرتَين في اليوم، أم أن هذا يومٌ جديد؟ ولِكم من الوقت يعتزمون حبسه في هذه الزنزانة؟ هل يريدون أن يُصيبوه بالجنون؟ طرح هذه الأسئلة على الرجل الذي يُحضر الخبز والماء، ولكن الرجل لم يجبه، بل لم ينبس ببنت شَفَة. لم يكن لبيتر رفيق في تلك «الحفرة» سوى ربه؛ ولم يكن بيتر وثيقَ الصلة بربه ولم يكن يستمتع بمناجاته.
كان البرد هو أكثر ما يُزعِج بيتر؛ فقد كان يتخلَّل عظامه، وكانت أسنانه تصطَك طوال الوقت. وعلى الرغم من حركته الدءوبة، لم يتمكَّن من إبقاء جسده دافئًا. عندما فتح الرجل الباب، صاح فيه متوسلًا للحصول على بطانية؛ وكلما جاءه الرجل، كان بيتر يتوسَّل بشكلٍ أكثر هياجًا من ذي قبل. كان مريضًا؛ فقد أصيب في الانفجار، وكان بحاجة إلى طبيب؛ فقد كان يُحتضَر! لكنه لم يكن يتلقَّى أي رد. كان بيتر يرقد في مكانه يرتجف ويبكي، ويتأوَّه، ويَهْذي، ويفقد الوعي لفترة، ثم يدخل في حالة لا يكون مدركًا فيها إذا ما كان مستيقظًا أو نائمًا، إذا ما كان حيًّا أو ميتًا. كان التشويش على عقله يزداد، وأصبحت الأمور التي كانت تحدث له، والأشخاص الذين كانوا يعذبونه، وحوشًا وأصدقاء يأخذونه في رحلاتٍ بعيدة، ويُغرِقونه في غياهب الرعب والعذاب.
ومع ذلك، بقَدْرِ ما كانت الأشباح التي تصوَّرها خيال بيتر المريض غريبة وكثيرة، لم يكن أيٌّ منها أكثر بشاعة من الواقع الذي كان سائدًا في ذلك الوقت في حياة المدينة الأمريكية، والذي كان بصدد تحديد مصير ذلك الرجل المسكين الذي يُدعى بيتر جادج. ففي المدينة الأمريكية، كانت ثمَّة مجموعة من الرجال الذين هيمَنوا على صناعاتها وسيطَروا على مصائر سكانها. كانت هذه المجموعة، التي تحصَّنت بسطوتها على مجال التجارة في المدينة وكذلك على حكومتها، تُواجه معارضة من قوةٍ جديدة صاعدة بسرعة الصاروخ، قوة العمالة المنظَّمة، التي كانت مُصرَّة على إنهاء سيطرة رجال الأعمال الذين يمثِّلون الأقلية والاستيلاء على سلطاتهم. كان الصراع بين هاتَين المجموعتَين يقترب من ذروته. كانت المجموعتان أشبه بمصارعَين عظيمَين يقبض كلٌّ منهما على عنق الآخر؛ أو بعملاقَين يقتتلان، فيقتلعان الأشجار من جذورها ويحملان جلاميد الصخر من الجبال ليحطم كلٌّ منهما جمجمة الآخر. ولكن، ماذا كان بيتر المسكين؟ مجرد نملة تصادف مرورها بالمنطقة التي يتصارع فيها المتقاتلان. كانت الأرض تهتز تحت أقدامهما، وكان التراب يتناثر في كل اتجاه، وكانت النملة التعسة تتلقى ضربًا مُبرحًا، وتنقلب رأسًا على عقب حتى دُفِنت تحت الأنقاض؛ وفجأةً … طراخ! هبطت قدمٌ عملاقة على المكان الذي كان يجاهد من أجل التقاط أنفاسه فيه!