القسم الحادي والخمسون
كان منزل نيلس أكيرمان يقع في مكانٍ بعيد عن ضواحي المدينة على تلة تُحيط بها الغابة. وكان يبعُد بضعة أميال من أقرب خط ترام، ما اضطر بيتر إلى السير في الشمس الحارقة. يبدو أن المصرفي العظيم لم يفكِّر ولو لمرةٍ واحدة أن أيَّ شخص قد يرغب في الوصول إليه بدون سيارة عند اختيار موقع منزله. فكَّر بيتر، أثناء سيره، أنه إذا استمر في تسلُّق السلَّم الاجتماعي وصولًا إلى تلك الطبقات الراقية، فسيكون لزامًا عليه أن ينضم إلى فئة مُلاك السيارات.
كان العقار محاطًا بسياجٍ برونزي كبير بارتفاع عشر أقدام، مع أوتادٍ حادة مدبَّبة نحو الخارج متوعدة من يقترب منها. كان بيتر قد قرأ عن هذا السياج منذ أمدٍ بعيد في جريدة «تايمز» المدينة الأمريكية؛ كان طولُه يبلغ كذا ألف ياردة، وبه عدد كذا وتدًا مُدببًا، وكلَّف مبلغ كذا من عشرات الآلاف من الدولارات. كانت هناك بوابةٌ برونزية ضخمة مغلقة بإحكام، ولوحة كُتب عليها: «احذر من الكلاب!» وراء البوابة، كان هناك ثلاثة حُراس يحملون بنادق ويسيرون ذهابًا وإيابًا، وجاء وجودهم نتيجة لمؤامرة التفجير بالديناميت الأخيرة، ولكن لم يكن بيتر يدرك ذلك، بل ظن أنهم موظَّفون دائمون في العقار، ورمز لأهمية الرجل الذي كان على وشك زيارته.
ضغط على زِر بجوار البوابة، وخرج أحد حُراس البوابة، وأبلغَه بيتر، طبقًا للأوامر التي تلقَّاها، أن اسمه «آرثر جي مكجيليكادي». عاد حارس البوابة إلى الداخل وتحدث في الهاتف، ثم عاد وفتح البوابة بانفراجة تكفي فقط لإدخال بيتر. قال حارس البوابة: «سيتم تفتيشك»، ولم يتذمَّر بيتر، الذي اعتُقِل مراتٍ عديدة، من هذا الإجراء، بل اعتبَره دليلًا آخر على أهمية نيلس أكيرمان. فتَّش الحراس جيوبه، وفتشوه ذاتيًّا، ثم قادَه أحدهم عبْر مسارٍ طويل مكسو بالحصى يمُر عبْر الغابة، ثم صعد سُلمًا رخاميًّا يؤدي إلى القصر فوق التلة، وسلَّمه إلى خادمٍ صيني يرتدي نعلًا مبطَّنة.
لو لم يكن بيتر يعرف أن هذا منزل، لظن أنه معرضٌ فني. كانت ثمَّة أعمدةٌ رخامية ضخمة، ولوحاتٌ أكبر حجمًا من بيتر نفسه، وسجاجيدُ جدارية في حجم خيولٍ حقيقية، وكانت ثمَّة مجسَّمات لرجالٍ مرتدين دروعًا كاملة، وفئوس معارك وأزياء شياطين رقص يابانية، والكثير من المناظر الغريبة الأخرى. كان بيتر في المعتاد سيهتم بمعرفة كيفية تزيين مليونير عظيم منزله، وكان سيطير فرحًا لوجوده وسط هذه الرفاهية. ولكن ذهنه كان مشغولًا بالكامل بالمهمة الحسَّاسة التي يؤديها. كانت نيل قد أخبرته بما يجب أن يبحث عنه، وبدأ يبحث عنه بالفعل. فبينما كان يصعد السلَّم المغطَّى بالسجَّاد المخْمَلي، لاحظ ستارًا يمكن أن يتوارى رجلٌ خلفه، ولوحةً لفارسٍ إسباني معلَّقة على الحائط المقابل له. ربما سيتمكن من الاستفادة من هذَين المنظرَين.
سارا بعد ذلك عبْر بهو يشبه أحد ممرَّات فندق هوتيل دي سوتو، وفي نهايته طرق الخادم بابًا بلطفٍ، واقتيد بيتر إلى داخل جناحٍ كبير نصف مظلم. انسحب الخادم دون صوت موصِدًا الباب خلفه ووقَف بيتر في مكانه مترددًا، وظل ينظر حوله ليتعرَّف على المكان من حوله. سمع سُعالًا خفيفًا لثلاث مرات آتيًا من الجانب الآخر من الغرفة، الأمر الذي دلَّ على وجود رجلٍ مريض. كان ثمَّة سريرٌ مصنوع من خشبٍ داكن ذو أربعة أعمدة، مغطًّى بظُلة من فوقه وأُسدِلت ستائر على جانبَيه، وكان ثمَّة رجل في السرير يجلس مستندًا على وسائد. سمع بيتر المزيد من السُّعال، ثم هَمْسًا خافتًا، يقول: «مِن هنا.» فتوجَّه بيتر نحوه ووقف على بعد حوالَي عشر أقدام من السرير ممسكًا بقُبعته في يدَيه؛ لم يكن قادرًا على رؤية الرجل الراقد في السرير جيدًا، ولم يكن يدري إذا كان من الذوق أن يحاول رؤيته جيدًا.
«إنه أنت إذن … (سُعال) ما اسمك؟»
قال بيتر: «جادج.»
«هل أنت الرجل … (سُعال) الذي يعرف خفايا الحُمْر؟»
«نعم، يا سيدي.»
كان الرجل الراقد في السرير يسعل كل دقيقتَين أو ثلاث دقائق طوال المحادثة التي تلت ذلك، ولاحظ بيتر أنه كان يرفع يده ليضعَها على فمه في كل مرة كما لو كان يشعُر بالخجل من الضجيج الذي يُحدِثه. اعتادت عينا بيتر بالتدريج على إعتام الغرفة واستطاع أن يرى أن نيلس أكيرمان كان رجلًا مسنًّا ذا وجنتَين ممتلئتَين وذقَنٍ مترهل، وهالاتٍ سوداء منتفخة تحت عينَيه. كان رأسه أصلع تمامًا تغطيه طاقية من الحرير الأسود المطرز، وسترة قصيرة مُطَرَّزة فوق منامته. وبجوار السرير، كانت هناك طاولةٌ مغطَّاة بالنظارات، والزجاجات، وعُلب الحبوب، بالإضافة إلى هاتف. كان هذا الهاتف يرنُّ كل بضع دقائق، وكان بيتر يجلس منتظرًا في صبر حتى يحلَّ السيد أكيرمان بعض مشكلات العمل المعقدة. قال في ضيق: «لقد أخبرتُهم بشروطي.» ثم سعل؛ ولاحظ بيتر، الذي كان يُراقب بانتباهٍ جميعَ تفاصيل سلوك الأغنياء، أنه كان مهذبًا لدرجة أنه لم يكن يسعل في سماعة الهاتف، ثم كان يستطرد قائلًا: «إذا كانوا سيدفعون مائة وخمسة وعشرين ألف دولار على الحساب، فسأنتظر، ولكني لن أقبل بسنتٍ واحد أقل من ذلك.» أدرك بيتر ذاهلًا أنه وصل إلى ذروة جبل الأوليمب؛ لقد وصل إلى أعلى نقطةٍ يمكن أن يأمل في الوصول إليها قبل أن يذهب إلى الجنة.
ثبَّت الرجل المُسِن عينَيه الداكنتَين على زائره، ثم همَس بصوته الأجَش: «من أرسل إليَّ هذا الخطاب؟»
كان بيتر يتوقع هذا السؤال، فردَّ عليه قائلًا: «أي خطاب، يا سيدي؟»
«خطاب يطلب مني أن أقابلك.»
«لا أعرف شيئًا عنه، يا سيدي.»
«هل تعني … (سعال) أنك لم ترسل إليَّ خطابًا من مجهول؟»
«لا، يا سيدي، لم أفعل.»
«لا بد إذن أن أحد أصدقائك هو من أرسله.»
«لا أعرف. ربما أرسَله أحد أعداء الشرطة.»
«حسنًا، ماذا عن وجود عميلٍ للحُمْر في منزلي؟»
«هل ورَد ذلك في الخطاب؟»
«نعم.»
«سيدي، هذه مبالغة. لستُ متأكدًا من ذلك، إنها مجرد فكرة راودتْني، وستحتاج إلى الكثير من الشرح.»
«أنت الرجل الذي اكتشف هذه المؤامرة، أليس كذلك؟»
«نعم، يا سيدي.»
قال المصرفي: «اجلس على هذا الكرسي، هناك.» كان هناك كرسي بالقرب من السرير، لكنه بدا لبيتر قريبًا أكثر من اللازم على نحو يفتقر إلى التهذيب، فسحَبه لمسافة أبعد قليلًا، وجلس على طرفه الأمامي، وهو لا يزال ممسكًا بقُبعته في يدَيه ويُحرِّكها بتوتر. فقال المسن متهكمًا: «ضع تلك القبعة من يدك.» فألقى بيتر القُبعة تحت كرسيه، وقال: «معذرةً، يا سيدي.»