القسم الثاني والخمسون

كان الرجل المُسِن الثري ضعيفًا ومريضًا، ولكن كان ذهنُه متقدًا، وبدا أن عينَيه تسبران أغوار بيتر. أدرك بيتر أنه سيتعين عليه أن يتعامل مع الرجل بحذرٍ شديد؛ فأي زلة، مهما كانت صغيرة، ستكون لها عواقبُ فادحة.

قال الرجل المسن: «والآن، يا جادج، أريد منك أن تُخبرني بكل شيء. بادئَ ذي بدء، كيف تمكَّنتَ من اختراق صفوف هؤلاء الحُمْر؟ احكِ لي منذ البداية.»

أخبره بيتر عن بداية اهتمامه بالحركة الراديكالية، مشددًا بشكلٍ خاص على خطورة هؤلاء الحُمْر، وعلى ولائه الشديد للطبقة التي تمثِّل النظام والتقدُّم والثقافة في البلاد. وصاح متظاهرًا ببراعة بأنه منفعل: «يجب أن يقفوا عند حدهم، يا سيد أكيرمان!»؛ فأومأ المصرفي المُسِن برأسه. وقال موافقًا إنه يجب أن يقفوا عند حدهم!

قال بيتر: «قلتُ لنفسي: «سأكتشف ما يُخفيه هؤلاء الرفاق.» فحضرتُ اجتماعاتهم، وتظاهرتُ بالتحول تدريجيًّا لأن أكون أحدهم، وأؤكِّد لك، يا سيد أكيرمان، أن شرطتنا نائمة؛ إنهم لا يعرفون شيئًا عما يفعله هؤلاء المحرِّضون، وما يروِّجون له. إنهم لا يعرفون شيئًا عن مدى توغُّلهم بين صفوف الجماهير الغاضبة!»

واصل بيتر حديثه المفصَّل عن دعاية الثورة الاجتماعية، وعن المؤامرات التي تُحاك لزعزعة القانون والنظام، ولتدمير ممتلكات الأثرياء، بل وحتى إنهاء حياتهم. لاحظ بيتر أن يدَ الرجل كانت ترتعش عندما كان يرشفُ بعض الماء لدرجة أنه تمكَّن بمشقَّة من منع الماء من الانسكاب عليه، وعندما رن الهاتف مرةً أخرى، كان صوته حادًّا ومتغطرسًا، وهو يقول: «أعرف أنهم يطلبون خروج هؤلاء الرجال من السجن بكفالة. أنجوس، هذه فجاجة! لن نقبل ذلك أبدًا! أريدك أن تذهب إلى القاضي على الفور وتتأكَّد من أن يظل هؤلاء الرجال محتجَزين في السجن.»

دخل المصرفي المُسِن في نوبة سُعالٍ أخرى، ثم قال: «والآن، يا جادج. إن ما أعرفه لا يختلف كثيرًا عما أخبرتَني به. ما أريدك أن تخبرني به يتعلق بتلك المؤامرة التي كانت تُحاك ضدي. أخبرني كيف اكتشفتَها.»

وأخبره بيتر؛ ولكنه بالطبع نمَّق الأجزاء التي تتعلق بالسيد أكيرمان، فقال إن هؤلاء الرجال كانوا يتحدثون عن السيد أكيرمان طوال الوقت، وأنهم كانوا يُضمِرون له ضغينةً كبيرة.

صاح الرجل المُسِن: «ولكن ما السبب؟ لماذا؟»

«إنهم يعتقدون أنك تُحارِبهم، يا سيد أكيرمان.»

«ولكنني لا أُحارِبهم! هذا ليس صحيحًا!»

«يقولون إنك رصدتَ أموالًا لشنِق جوبر. ويطلقون عليك اسمًا … هل ستعذرُني إن ذكرتُه؟»

«نعم، نعم، بالطبع.»

«يُطلِقون عليك اسم «كبير شياطين المال». ويُطلِقون عليك اسم ملِك المال في المدينة الأمريكية.»

صاح المصرفي: «ملِك! ما هذا الهراء! عجبًا يا جادج، هذه أخبارٌ صحفيةٌ غبية! أنا حاليًّا رجل فقير. هناك دُزِّينتان من الرجال في هذه المدينة أكثر ثراءً مني، كما أنهم يملكون سلطةً أكبر مني. لماذا …» ولكن الرجل المُسِن دخل في نوبة سُعال جديدة أتعبتْه لدرجة أنه رقد وسط وسائده حتى استعاد أنفاسه. التزم بيتر الصمت في وقار، ولكنه لم يقتنع بالطبع بما قيل له. كان بيتر قد دخل في مفاوضاتٍ مراتٍ عديدة في حياته وسمع الناس يزعمون أنهم فقراء وعاجزون.

استأنف الرجل المُسِن حديثه قائلًا: «جادج، أنا لا أريد أن أُقتل؛ أقول لك إنني لا أريد أن أُقتل.»

قال بيتر: «لا، بالطبع لن يحدُث ذلك.» كان من الجلي أن السيد أكيرمان لا يريد أن يُقتل. ولكن بدا أن السيد أكيرمان يرى أنه من الضروري أن يطبع هذه الفكرة في ذهنه؛ فقد عاد ليُكرِّرها خلال المحادثة عدة مرات، وكان يقولها كل مرة بالجدية نفسها، كما لو كانت فكرةً جديدة تمامًا، فكرة غير عادية ومدهشة. كان يقول: «لا أريد أن أُقتل، يا جادج؛ أقول لك إنني لا أريد أن أترك هؤلاء الرجال يصلون إليَّ. لا، لا؛ يجب أن نُراوغَهم، يجب أن نتخذ الاحتياطات، كامل الاحتياطات، أقول لك كامل الاحتياطات الممكنة.»

قال بيتر بجدية: «لقد جئتُ لهذا الغرض، يا سيد أكيرمان. سأتولى كل شيء. سنتولى كل شيء، أنا واثق من ذلك.»

سأله المصرفي: «لماذا قلتَ ذلك عن الشرطة؟ لماذا قلتَ ذلك عن قِسم جوفي؟ هل تقول إنهم غير أكفاء؟»

قال بيتر: «حسنًا، سأخبرك، يا سيد أكيرمان. إنه أمرٌ محرجٌ إلى حدٍّ ما كما ترى، فهم رؤسائي …»

صاح أكيرمان: «هُراء! أنا رئيسك! أنا من يدفع راتبك، وأريد الحقائق! أريدها كلها.»

قال بيتر: «حسنًا، لقد أحسنوا إليَّ كثيرًا …»

صرخ الرجل المُسِن: «قلتُ أخبرني بكل شيء! ما مشكلتهم؟» كان رجلًا مسنًّا عجولًا لم يستطع أن يصبر للحظةٍ واحدة دون أن يحصل على ما طلب.

أجاب بيتر بأكثر ما يملك من تواضُع: «يمكنني أن أخبرك بالكثير من الأمور التي ستفيدك كثيرًا، يا سيد أكيرمان، ولكن عليك أن تحتفظ بها سرًّا بيننا.»

قال الآخر بسرعة: «حسنًا! ما الأمر؟»

قال بيتر بإصرار: «إذا ما ألمحتَ حتى لأحد عما سأقول، فسأُطرد من عملي.»

«لن تُطرد، سأتكفَّل بذلك. وإذا لزم الأمر، فسأعينك للعمل معي مباشرةً.»

«آه، ولكنك لا تفهم، يا سيد أكيرمان. إنهم مثلُ آلةٍ معقَّدة، ولا يمكنك أن تصطدم بها؛ عليك أن تفهمها، وعليك أن تتعامل معها بالشكل الصحيح. أودُّ أن أساعدك، وأعرف أنني أستطيع أن أساعدك، ولكن عليك أن تدَعني أشرح لك الموقف، وعليك أن تفهم بعض الأمور.»

قال المُسِن: «حسنًا، هاتِ ما عندك، ما الذي تريد شرحه؟»

قال بيتر: «كل ما في الأمر أن رجال الشرطة هؤلاء وجميع رجال الشرطة يقصدون الخير، ولكنهم لا يفهمون ما يدور حولهم؛ إن الأمر شديد التعقيد، وهم لم يعيشوا وسط هذه الحركة لفترةٍ كافية. لقد اعتادوا على التعامل مع المجرمين، ولكن هؤلاء الحُمْر، كما تعلم، متعصِّبون. عادةً ما يكون المجرمون غير منظَّمين، ولا يتكاتفون معًا على الأقل، أما هؤلاء الحُمْر، فيفعلون ذلك، وإذا ما دخلتَ في صراع معهم، فلن يقفوا مكتوفي الأيدي، كما أنهم يستخدمون ما يُسمُّونه «الدعاية». وتلك الدعاية شيءٌ خطير، فإذا أقدمتَ على خطوةٍ خاطئة، فقد تكتشف أنكَ قد جعلتَ موقفهم أقوى مما كان سابقًا.»

قال المُسِن: «نعم، أعرف ذلك. ماذا أيضًا؟»

«أريد التأكيد مجددًا على أن الشرطة لا تُدرِك مدى خطورتهم. وإذا ما حاولتَ أن تُخبرهم بأمورٍ تحدث، فإنهم لن يصدقوك. وصلتني منذ فترةٍ طويلة معلوماتٌ عن مجموعة كوَّنها هؤلاء الناس تهدفُ لقتل جميع الأثرياء، الأشخاص المهمين في جميع أنحاء البلاد. كانوا يتجسَّسون على هؤلاء الأثرياء ويتجهَّزون لقتلهم. إنهم يعرفون الكثير من المعلومات عنهم لدرجة أنك لا تستطيع تفسير كيفية حصولهم عليها. هذا ما جعلَني أفكر في أنهم جنَّدوا جاسوسًا داخل منزلك، يا سيد أكيرمان.»

«أخبِرني بما تعنيه. أخبِرني فورًا.»

«حسنًا، يا سيدي، يلتقط سمعي، من وقتٍ لآخر، أجزاء من محادثات. ذات يوم سمعتُ ماك …»

«ماك مَن؟»

«إنه ماكورميك، الذي في السجن. إنه أحد قادة اتحاد العمال الصناعيين العالمي، وأظن أنه أخطرهم. سمعتُه يهمس بشيء لرفيقٍ آخر، وأرعبَني ذلك؛ لأنه كان يتعلَّق بقتل رجلٍ ثري. كان يُراقِب هذا الرجل الثري، وقال إنه سيطلق النار عليه في منزله! لم أسمع اسم الرجل؛ فقد سرتُ مبتعدًا عنهما لأنني لم أرغب في أن يظن أنني كنتُ أحاول التنصُّت عليه. هؤلاء الأشخاص متشكِّكون للغاية؛ إذا ما واصلتَ مراقبة ماك، فسترى أنه ينظر حوله كل دقيقة أو اثنتَين. سرتُ مبتعدًا، ثم عدتُ مجددًا، وكان يضحك على شيءٍ ما، وسمعتُه يقول الكلمات الآتية؛ سمعتُه يقول: «كنتُ أختبئ خلف ستار، وكان هناك رجلٌ إسباني مرسوم على الجدار المقابل، وكلما ألقيتُ نظرةً من خلف الستار وجدتُه ينظر نحوي، وتساءلتُ عما إذا كان سيحفظ سري.»»

صمت بيتر. كانت عيناه قد اعتادتا على العتمة وأصبح قادرًا على رؤية عينَي المصرفي المُسِن تجحظان من بين الهالات الداكنة والمنتفخة تحتها. ثم همس نيلس أكيرمان قائلًا: «يا إلهي!»

قال بيتر: «كان هذا كل ما سمعت. لم أكن أعرف ماذا يعني. ولكن عندما رأيت ذلك المخطَّط الذي رسمه ماك لمنزلك، قلتُ لنفسي، يا إلهي، أراهن أنه كان يتحيَّن الفرصة لإطلاق النار على السيد أكيرمان!»

ظل الرجل المُسِن يهمس: «يا إلهي! يا إلهي!» وقبضت أصابعه المرتجفة على تطريز الغطاء. رنَّ جرس الهاتف فالتقط سماعته، وقال لشخصٍ ما إنه مشغول الآن ولا يمكنه التحدث، وأن يتصل به في وقتٍ لاحق. ثم دخل في نوبة سُعال أخرى حتى ظن بيتر أنه سيختنق، واضطُر إلى مساعدته في ابتلاع دواءٍ ما. كان بيتر مصدومًا لرؤية الخوف والمذلة باديَين بهذا الوضوح على أحد الآلهة. كان سكان الأوليمب هؤلاء مجرد بشرٍ في نهاية المطاف، وهم عُرضةٌ للألم والموت مثل بيتر جادج نفسه!

كما فُوجئ بيتر برؤية كَم كان السيد أكيرمان «طيعًا». لم يتظاهر بأنه غير مبالٍ بالحُمْر. ووضع نفسه طوعًا تحت رحمة بيتر ليستغلَّه كما يحلو له. وسيغتنم بيتر هذه الفرصة إلى أقصى حد.

قال بيتر: «سيد أكيرمان، بوسعي أن أرى أنك أصبحتَ تدرك أنه لا فائدة من إخبار الشرطة بمثل هذه الأمور؛ فهُم لا يعرفون كيفية التصرف في مثل هذه المواقف؛ أصدُقُكَ القول إنهم لا يأخذون هؤلاء الحُمْر على محمل الجد. إنهم للقبض على لصٍّ عادي على استعداد لدفع مبلغٍ من المال أكبر بعشرة أضعاف مما قد يدفعونه لمراقبة عصابةٍ كاملة على هذه الشاكلة.»

صرخ الرجل المُسِن قائلًا: «كيف استطاعوا الدخول إلى منزلي؟»

«لقد تمكَّنوا من ذلك بطرق لا تخطر لك على بال، يا سيد أكيرمان. ثمَّة أشخاص يوافقونهم في الفكر. لن تعرف سبب ذلك أبدًا؛ فبعض الوعاظ ينتمون إلى الحُمْر، وكذلك بعض أساتذة الجامعات، وبعض الأثرياء مثلك.»

قال أكيرمان: «أعرف، أعرف ذلك، ولكن لا شك في …»

«كيف يمكنك أن تعرف؟ قد يكون ثمَّة خائنٌ وسط عائلتك نفسها.»

استمر بيتر في غَرس الرعب من الحُمْر في نفس هذا المليونير العجوز الذي لا يريد أن يُقتل. قال مجددًا إنه لا يريد أن يُقتل وشرح سبب كراهيته لذلك ببعض التفصيل. ثمَّة كثيرون يعتمدون عليه لكسب رزقهم، عددٌ أكبر مما يمكن لبيتر أن يتخيل! ربما هناك مائة ألف رجل مع عائلاتهم هنا في المدينة الأمريكية تعتمد وظائفهم على الخطط التي ينفِّذها أكيرمان، والتي لا يمكن لأحدٍ سوى أكيرمان تنفيذها. كان الأرامل واليتامى يعتمدون عليه في حماية أموالهم، ثمَّة شبكةٌ ضخمة من المسئوليات تتطلب قراراتٍ منه كل يوم، بل كل ساعة. وكالمتوقَّع، رن جرس الهاتف، وسمع بيتر نيلس أكيرمان يعلن أنه يجدُر بالشركة المتحدة للأوراق المالية أن تؤجل اتخاذ القرار بشأن أرباحها حتى الغد لأنه مشغول حتى أذنَيه في توقيع بعض الأوراق في ذلك الوقت. ثم وضَع سماعةَ الهاتف وقال: «أتدري، أتدري! يجب ألا ندَعهم يصلون إليَّ، يا جادج!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤