القسم الخامس والخمسون

ركب بيتر الترام إلى منزل ميريام يانكوفيتش، وفي الطريق، قرأ الطبعة المسائية من صحيفة «تايمز» المدينة الأمريكية. كان من المؤكَّد أن محرري هذه الصحيفة يتربصون بالحُمْر، لا شك في ذلك! كانوا قد أخذوا كتاب ماكورميك عن التخريب، تمامًا كما تنبَّأت نيل، ونشروا فصولًا كاملة منه، مع طباعة الجمل الأكثر تهديدًا بخط كبير، وإحاطة بعضها بإطاراتٍ صغيرة وبعثَرتها في جميع أنحاء الصفحة حتى لا يغفل أحدٌ عنها. كما نشروا صورة لماكورميك التُقِطت في السجن؛ كان قد ظل عدة أيام دون أن يحلقَ لحيته، ويبدو أنه لم يكن يشعُر بالسعادة بشأن التقاط صورته؛ على أي حال، بدا مخيفًا بما يكفي لإرهاب أكثر الناس تشكُّكًا، وتأكَّد ما قاله بيتر إن ماك هو أكثر الحُمْر خطورة على الإطلاق.

نشرت هذه الصحيفة أعمدةً كثيرة تتحدث عن القضية، وربطتْها بطريقةٍ غير مباشرة بجميع حوادث التفجير والاغتيال الأخرى التي وقعت على مدار التاريخ الأمريكي، وبمؤامرات الجواسيس الألمان ومؤامرات التفجير بالقنابل. وقالت إن ثمَّة منظَّمةً تضم هؤلاء القتلة على مستوى البلاد، ونشرت مئات الصحف التي يقرؤها الملايين، وجميعها يمولها الذهب الألماني. كذلك، نشرت الصحيفة مقالًا تحريريًّا من عمودَين يدعو المواطنين لأن يهُبوا لإنقاذ الجمهورية والقضاء على التهديد الأحمر إلى الأبد. قرأ بيتر كل هذا، ومثل أي أمريكيٍّ شريفٍ آخر، صدَّق كل كلمة قرأَها في الصحيفة وتميَّز غضبًا بكراهية الحُمْر.

وجد بيتر أن ميريام يانكوفيتش ليست في منزلها، وكانت والدتُها منفعلة للغاية لأن مريم تلقت خبرًا مفاده أن الشرطة كانت تستجوب السجناء «بعنف»، فذهبت إلى مقر مجلس الشعب في محاولة منها لتوحيد جهود الراديكاليين واتخاذ إجراءاتٍ فورية. لذا، توجه بيتر من فَوره إلى المقر المذكور حيث وجد نحو خمسة وعشرين من الحُمْر والمناهضين للحرب مجتمعين، وكانوا جميعُهم في حالة الانفعال نفسها. كانت ميريام تذرَع الغرفة جيئةً وذهابًا، وكانت تشبِّك يدَيها وتفكُّهما، وكانت عيناها تبدوان وكأنها كانت تبكي طوال اليوم. تذكَّر بيتر شكوكه في أن ميريام وماك كانا عشيقَين. وعندما سألها، أجابته بأنهم وضعوا ماك في «الحفرة»، وكان هندرسون، الحطَّاب، راقدًا في المستشفى بسبب التجربة القاسية التي مر بها.

بدأت الفتاة اليهودية تقص عليه ما حدث بالتفصيل، ووجد بيتر نفسَه يرتجف؛ فقد كانت لديه ذكرى حية عن استجوابه بعنف! لم يُحاوِل أن يتوقف عن الارتجاف، ولكنه بدأ يذرَع الغرفة مثل ميريام وأخبرَهم بما يشعُر به المرء عندما يُلوَى رسغاه وتُجذَب أصابعه للخلف، وكيف أن «الحفرة» رطبة ومروِّعة. كان يقصد بذلك أن يُدخلَهم في حالةٍ هستيرية، على أمل أن يُقْدِموا على فعلٍ متهور، كما أراد ماكجيفني تمامًا. لِمَ لا يقتحمون السجن ويُحررون السجناء؟

قالت أدا روث الصغيرة إن هذا محضُ هراء؛ ولكن ألا يجدُر بهم أن يُحضِروا لافتات، ويخرجوا في مسيرة أمام السجن احتجاجًا على تعذيب الرجال الذين لم يُدانوا بأي جريمة؟ لا شك في أن الشرطة ستهاجمهم، وقد يهاجمهم العامة أيضًا وربما يمزقونهم إرْبًا، ولكن يجب ألا يقفوا مكتوفي الأيدي. أجاب دونالد جوردون أن هذا لن يجعلهم قادرين على الاستمرار في إثارة الجماهير. ما يجدُر بهم أن يُحاوِلوا فعله هو إضرابٌ عمالي. يجب أن يرسلوا برقيات إلى الصحافة الراديكالية، وأن يخرجوا ويجمعوا المال، وأن يدْعوا إلى اجتماعٍ جماهيري بعد ثلاثة أيام من الآن. كما يجب أن يتواصلوا مع جميع نقابات العمال ليرَوا إذا ما كان من الممكن أن يُعمِّموا فكرة الإضراب العام.

عاد بيتر، المحبَط إلى حدٍّ ما، إلى ماكجيفني وأبلَغه بهذه النتيجة الضعيفة. ولكن ماكجيفني قال إنه لا بأس، وإن لديه شيئًا سيُعَدِّلها؛ وأخبر بيتر بخبرٍ مذهل. كان بيتر يقرأ في الصحف عن الجواسيس الألمان، ولكنه لم يأخذ الأمر بجديةٍ كبيرة؛ فقد كانت الحرب تدور في أراضٍ بعيدة، ولم يرَ بيتر أيًّا من ذلك الذهب الألماني الذي تحدثت عنه الصحف كثيرًا؛ في الواقع، كان الحُمْر يعيشون في حالة فقرٍ دائم، فكان كلٌّ منهم يحرم نفسه من مُتع الدنيا بصورةٍ دائمة لكي يتمكَّن من تخصيص جزء من دخله المحدود لدفع تكاليف المطبوعات، والمنشورات، والمراسلات، وصناديق الدفاع، وجميع نفقات منظمةٍ دعائية نشطة. ولكن أعلن ماكجيفني أن كل هذا حقيقي، وأنه من المؤكَّد وجود عميل للقيصر الألماني في المدينة الأمريكية! أوشكت الحكومة أن تُوقع به، ومن بين الأمور التي أراد ماكجيفني فعلها قبل اعتقال الرجل هو جعله يُسهِم ببعض المال لصالح القضية الراديكالية.

لم يكن من الضروري أن يُوضِّح ماكجيفني لبيتر مدى أهمية هذه المعلومات. إذا ما تمكَّنت السلطات من إثبات أن الاضطرابات التي كان يدعو لها ماكورميك وبقية الحُمْر ممولة بأموالٍ ألمانية، فإن الشعب سيتقبل أي إجراءاتٍ تُتخذ لإنهائها. هل يمكن لبيتر أن يقترح على ماكجيفني اسم اشتراكي ألماني يمكن إقناعُه بالتواصل مع عميل القيصر هذا، وجعله يُسهِم بأمواله من أجل الدعوة لإضرابٍ عام في المدينة الأمريكية؟ كان العديد من المصانع الكبرى في المدينة تكرِّس إمكاناتها لأغراض الحرب، ولا شك في أن العدو سيستفيد كثيرًا من الإضرابات والاضطرابات العمالية. كان رجال جوفي يحاولون منذ فترةٍ طويلةٍ جعل الألمان يُسهِمون في صندوق الدفاع عن جوبر، ولكن هذه الفرصة كانت أفضل بكثير من أي فرصةٍ سابقة.

فكَّر بيتر في الرفيق أبفل، الذي كان أحد الاشتراكيين المتطرفين، ومناهضًا مؤقتًا للحرب مثل أغلب الألمان. كان أبفل يعمل في مخبز، وكان وجهه باهتًا مثل العجين الذي يعجنه، ولكن كانت لمحة من الحُمرة تظهر على وجهه عندما كان يقف في المجلس المحلي ليدِين «الوطنيين الاجتماعيين»، أعضاء الحزب الذين كانوا يدعمون خطط بريطانيا للهيمنة على العالم. قال ماكجيفني إنه سيُرسِل شخصًا إلى أبفل على الفور ويعطيه اسم عميل القيصر باعتباره شخصًا يمكن إقناعه بالمساهمة في صندوق الدفاع الراديكالي. ولن تكون لدى أبفل، بالطبع، أدنى فكرة عن كون هذا الرجل عميلًا ألمانيًّا، وسيذهب لمقابلته، وسيطلب منه المال، وهنا يأتي دور ماكجيفني وزملائه المحققين. قال بيتر إنها خطةٌ رائعة وعرَض أن يذهب إلى أبفل بنفسه، ولكن الرجل ذا وجه الجرذ رفض العرض؛ فقيمة بيتر كبيرة للغاية عنده، ويجب عدم المخاطرة بتوجيه شكوك أبفل نحوه بأي حال من الأحوال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤