القسم السادس والخمسون
تلقَّى بيتر رسالة قصيرة من نيل تخبره فيها بأن كل شيء على خير ما يُرام، وأنها استلمت وظيفتَها الجديدة، وسوف تحقِّق نتائج قريبًا. لذا، بدأ بيتر يزاول مبتهجًا مهامه المتعلقة بمحاولة قمع حملة احتجاج الراديكاليين. كان النجاح الذي يحقِّقونه، رغم أنف جميع الجهود التي تبذلها السلطات، مرعبًا للغاية. كانت كوماتٌ من المنشورات تظهر في تجمعاتهم بطريقة عجيبة، ثم تُؤخَذ وتُوَزَّع قبل أن تتمكَّن السلطات من اتخاذ أي إجراء. كل ليلة في معبد العمل؛ حيث يجتمع العمال، كان محرِّضون يتحدثون صارخين بأعلى أصواتهم عن قضية ماكورميك. وما زاد الطين بلةً أن صحيفةً مسائيةً غامضة بقيمة سنتٍ واحد في المدينة الأمريكية استهدفت القُراء من الطبقة العاملة، وأصرَّت على نشر أدلة تُثبت أن القضية «ملفَّقة». اكتشف الحُمْر أن ثمَّة من يعترض بريدهم، وبدءوا يثيرون صخبًا هائلًا حيال ذلك الأمر مُدَّعين، بالطبع، أن ما كانوا يهتمون به هو «حرية التعبير»!
كان من المقرَّر عقد الاجتماع الجماهيري هذا المساء، وقرأ بيتر مقالًا غاضبًا في جريدة «تايمز» المدينة الأمريكية يدعو السلطات إلى قمع هذا الاجتماع. كان عنوان المقال «فليسقط العلم الأحمر!» ولم يستطع بيتر استيعاب كيف يمكن لأي أمريكي ذي دمٍ حار، أي أمريكيٍّ حقيقي بنسبة ١٠٠٪، أن يقرأ هذا المقال ولا يحفزه لأن يتحرك لفعل شيءٍ ما.
قال بيتر ذلك لماكجيفني، الذي ردَّ عليه قائلًا: «سنفعل شيئًا ما، انتظِر وسترى!» وبالفعل، في عصر ذلك اليوم، نقلت صحف أخبارًا مفادها أن عمدة المدينة الأمريكية أبلغ مُلاك القاعة أنهم سيتعرضون للمساءلة القانونية بسبب جميع التصريحات المحرِّضة والثائرة التي ستُلقى في هذا الاجتماع؛ وبناءً على ذلك، ألغى مُلاك القاعة العَقد. علاوةً على ذلك، أعلن العمدة أن تجمهُر الحشود في الشارع ممنوع، وأن الشرطة ستكون حاضرةً لضمان ذلك، ولحماية القانون والنظام. هُرع بيتر إلى مقر مجلس الشعب، ووجد الراديكاليين يروحون ويجيئون في محاولة منهم للعثور على قاعةٍ أخرى؛ ومن وقتٍ لآخر، كان بيتر يذهب إلى الهاتف، ويُخبر ماكجيفني باسم القاعة التي يُحاولون الاجتماع فيها، وكان ماكجيفني يتواصل مع جوفي، وكان جوفي يتواصل مع سكرتير غرفة التجارة، وكان صاحب هذه القاعة يتلقى اتصالًا متوعدًا من رئيس المصرف الذي يملك رهنًا لهذه القاعة، أو من رئيس مجلس إدارة الأوركسترا السيمفونية التي تُقدِّم حفلاتها هناك.
ومن ثَم، لم يُقم اجتماع جماهيري للحُمْر تلك الليلة، وكذلك طوال الليالي التي تلتها في المدينة الأمريكية! كان قِسم جوفي قد انتهى من إعداد قصة الجاسوس الألماني، وفي صباح اليوم التالي، كانت صفحة صحيفة «تايمز» المدينة الأمريكية بالكامل مخصَّصة للكشف المذهل عن أن كارل فون ستروم، عميل الحكومة الألمانية، والذي يُعتقد أنه ابن أخي نائب المستشار الألماني، قد اعتُقِل في المدينة الأمريكية؛ حيث كان يتظاهر بأنه وكيل لاستيراد آلات الخياطة السويدية، ولكنه في الواقع كان يعمل على تمويل زرع قنابل الديناميت في مباني شركة «بايونير فاوندري» التي تُجهَّز الآن لصنع الرشاشات. كما قُبض على ثلاثة من المتعاونين مع فون ستروم في الوقت نفسه، ووقعت بين أيدي السلطات مجموعةٌ كبيرة من الأوراق المليئة باكتشافاتٍ مهمة، لعل أكثرها أهمية حقيقة أن فون ستروم تواصل بالأمس فقط مع اشتراكي ألماني من الحُمْر المتطرفين، وهو أحد مسئولي اتحاد صُناع الخبز والكعك رقم ٤٧٩، ويُدعى إرنست أبفل. وتملك الحكومة سجلًّا للمحادثات التي أسهَم بموجبها فون ستروم بمبلغ مائة دولار لصالح «جمعية الدفاع عن الحرية»، وهي منظَّمة أنشأها الحُمْر بغرض التحريض على إطلاق سراح أعضاء اتحاد العمال الصناعيين العالمي الذين اعتُقِلوا في مؤامرة قتل نيلس أكيرمان بالديناميت. وعلاوةً على ذلك، ثبت أن أبفل أخذ هذا المال ووزَّعه على عدة ألمان من الحُمْر، الذين تبرَّعوا به بدَورهم لصندوق الدفاع، أو استخدموه في دفع تكاليف المنشورات التي تدعو إلى الإضراب العام.
كان قلب بيتر ينبض بقوة في صدره من فرْط الانفعال، ونبض بسرعةٍ أكبر بعدما اشترى إفطاره وذهب ليتمشَّى في الشارع الرئيسي. فقد رأى حشودًا مجتمعة، وأعلام أمريكا ترفرف من جميع المباني، وبدا الحال شبيهًا بموكب يوم الاستعداد الوطني. أدى ذلك إلى شعور بيتر بنوباتِ خوفٍ غريبة، فتخيل انفجار قنبلةٍ أخرى، لكنه لم يستطع تفادي الجماهير بوجوههم المترقبة وحماستهم المعدية. ثم وصلت فرقةٌ موسيقية تعزف موسيقى عسكرية رائعة، ومن خلفها، جاء الجنود يمشون مشيتهم العسكرية، ترامب، ترامب، ترامب، صفٌّ تلو الآخر من الصبية الذين يرتدون بدلاتهم العسكرية باللون الكاكي ويحملون على ظهورهم حقائبَ ثقيلة وبنادقَ جديدة لامعة. أولادنا! أولادنا! باركهم الرب!
كان الموكب مُكونًا من ثلاثة أفواج من الفرقة ٢٢٣، قادمة من معسكر لينكولن لتُجهَّز للذهاب إلى الحرب. كان من الأفضل أن يذهبوا إلى معسكرهم بالطبع، ولكن كان الجميع يطالبون برؤية الجنود، وها هم أولاء مع موسيقاهم وأعلامهم، وحشودهم من المعجبين المتحمسين مصطفِّين في خطَّين من الناس لا نهاية لهما، مفعمين بحماسةٍ وطنية، يصرخون، ويغنُّون، ويلوِّحون بالقُبعات والمناديل، حتى أصبح الشارع كله كتلةً من الهياج الضبابي الجنوني. راقَب بيتر صفوف الجنود المتلاصقة هذه، المستقيمة والسليمة، وأرجُل الجنود التي تتحرك في توافُق تام، والأقدام التي ترجُّ الأرض كهزيم الرعد. رأى الوجوه الصبيانية الشابة، ذات النظرات الجادة الفخورة، والأعين الثابتة نحو الأمام ولا تحيد أبدًا، حتى وإن أدركوا أن هذه قد تكون النظرة الأخيرة التي يُلقونها على مدينتهم الأم، وأنهم قد لا يعودون من هذه الرحلة أبدًا. أولادنا! أولادنا! باركهم الرب! شعر بيتر بغُصة في حلقه، وشعور بالامتنان للصبية الذين يحمونه وبلاده، فضَم يدَيه وجزَّ على أسنانه، وقد نما في داخله إصرارٌ جديد على معاقبة الأشرار رجالًا ونساءً، سواء كانوا هاربين من الخدمة العسكرية، أو متخاذلين، أو مناهضين للحرب، أو متمردين؛ جميع من فَشِلوا في أداء أدوارهم في هذا المسعى المجيد.