القسم الستون

في ذلك الوقت كان بيتر جالسًا في المقعد الخلفي لسيارته مرتديًا القناع الذي أعطاه إياه ماكجيفني، والذي كان عبارة عن قطعة من القماش بها فتحتان لعينَيه وفتحةٌ أخرى ليتنفَّس من خلالها. كان بيتر يكره هؤلاء الحُمْر، وكان يريد معاقبتهم، ولكنه لم يكن معتادًا على رؤية الدماء، ووجد أنه لا يستطيع تحمُّل صوت ارتطام السوط المتواصل على اللحم البشري. لماذا جاء؟ هذا ليس جزءًا من الدور الذي يؤديه في حفظ بلاده من الخطر الأحمر. كان قد أدى دوره في تحديد الأشخاص الخطِرين، كان رجلًا يتعامل بالعقل، لا بالعنف. رأى بيتر أن الضحية التالية كانت توم دوجان بأنفه المكسور الدامي، وجفل بيتر في حزن رغمًا عنه. وأدرك أنه أصبح معجبًا بتوم دوجان دون قصد. فعلى الرغم من غرابة أطواره، كان دوجان مخلصًا، وكنت ستجدُه رجلًا طيبًا إذا ما تمكَّنتَ من تخطي أسلوب تعامله الواثق. لم يفعل شيئًا سوى التذمر، ونَظَم تذمُّره في أبياتٍ شعرية، كان من الخطأ أن يُجلَد، وراود بيتر للحظات دافعٌ جنوني للتدخُّل وإخبارهم بخطئهم.

لم يُصدر الشاعر أي صوت. ألقى بيتر نظرةً على وجهه في الضوء الأبيض الساطع، وعلى الرغم من أن وجهه كان محطمًا وملطخًا بالدماء، رأى بيتر فيه عزم توم دوجان، كان يفضِّل الموت على أن يخرج منه أي أنين. كلما سقط السوط على ظهره، كنت ترى جسده بالكامل يرتجف، ولكنه لم يُصدِر أي صوت، وظل واقفًا محتضنًا الشجرة بقبضةٍ متشنِّجة. ظلوا يجلدونه حتى بدأ السوط ينثر الدم عليهم، وحتى بدأ الدم ينسال على الأرض. كانوا قد أحضروا معهم طبيبًا يحمل حقيبةً سوداءَ صغيرة من باب الحَيْطة، وتقدَّم الطبيب خطوةً للأمام وهمَس لمنظم المراسم. ففكُّوا قيود دوجان، وأرغموه على تحرير ذراعَيه من حول الشجرة، وألقَوا به بجوار جليكاس.

ثم حان دور دونالد جوردون، الاشتراكي المنتمي إلى جماعة الأصدقاء، الذي أثار بعضًا من الدراما الرخيصة. كان دونالد يأخذ دينه على محمل الجد، وكان دائمًا ما يصرِّح بمعارضته الحرب باسْم يسوع، الأمر الذي جعله مزعِجًا للغاية. وفي هذه اللحظة، رأى فرصةً ذهبيةً لتقديم أحد عروضه المسرحية، فرفع يدَيه المكبَّلتَين في الهواء كما لو كان يصلي، وصرخ بنبرة حادة: «يا أبتاه اغفر لهم؛ لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون!»

بدأت همهمةٌ تنتشر وسط الحشد، وكان يمكنك سماعها تتصاعد متحولةً إلى هدير، ثم صرخوا: «تجديف! أخرِسوا فمه القذر!» كان هذا الفم نفسه هو الذي استُمِع إليه من قبلُ وهو يخطب على مئات المنابر، وهو يُدين الحرب ومن يتربَّحون منها. ولكنهم موجودون الآن، أولئك الرجال الذين كان يُدينهم، الأعضاء الأصغر سنًّا في غرفة التجارة وجمعية التجار والمصنعين، أفضل مَن في المدينة، أولئك الذين كانوا يعملون على إنقاذ البلاد، ولا يطلبون مقابلًا لخدماتهم. لذا أطلقوا صرخة غضب ضد هذا المُجدف. تقدَّم رجل، لم يتمكن قناعه من إخفاء هويته؛ فقد كان قوي البنية وجَهْوري الصوت لدرجة أن جميع مَن في الحشد عرفوه، وأمسك بالسوط الملطَّخ بالدماء. كان بيلي ناش، الأمين العام ﻟ «رابطة تحسين أمريكا» وصرخ الحشد: «هيا، يا بيلي! أحسنت، هيا يا صديقي!» قد يخبر دونالد جوردون الرب أن بيلي ناش لا يعلم ما يفعل، ولكن كان بيلي يعتقد أنه يعلم، وكان يريد أن يُقنِع دونالد بأنه يعلم ما يفعل قبل أن يبدأ. لم يستغرق الأمر وقتًا طويلًا؛ لأن شابَّ جماعة الأصدقاء لم يكن يملك شيئًا سوى صوته، ففقَد وعيه عند الضربة الرابعة أو الخامسة، وبعد الضربة العشرين تدخَّل الطبيب.

ثم جاء دور جرادي، الأمين العام لاتحاد العمال الصناعيين العالمي، وهنا حدَث أمرٌ فظيع. كان جرادي يراقب ما يحدث من إحدى السيارات، وكان قد أصابه اليأس، وعندما فكُّوا الأصفاد ليخلعوا عنه معطفه، دفعَهم فجأة وتحرَّر منهم، وتغلَّب على الرجال الواحد تلو الآخر. كان قد نشأ في منطقة الحطَّابين، وكانت قوَّتُه مدهشة، وقبل أن يدرك الحشد ما يحدث، كان يقفز بين اثنين من السيارات. وقفز فوقه عشرات الرجال من جميع الاتجاهات، وسقط في خضم معركة شرسة. أمسَكوا به مثبِّتين وجهه في الأرض، صرخ الحشد وكأنهم وحوشٌ برية ليلية:

«اشنقوه! اشنقوه!» وجاء رجل يركض حاملًا حبلًا، ويصرخ: «اشنقوه!»

حاول منظم المراسم الاحتجاج عبْر البوق، ولكن أُسقِط الجهاز من يده، ودُفِع جانبًا، وفي لمح البصر، كان هناك رجل يتسلق شجرة الصنوبر ويعلق الحبل على أحد أغصانها. اختفى جرادي بين المتزاحمين حوله، ثم تصاعدت فجأة صيحة من وسط الحشد، وظهر جرادي بوضوحٍ تام، ورُفع عاليًا في الهواء والحبل يلتف حول رقبته وكانت قدماه تركلان بعنف في جميع الاتجاهات. وفي الأسفل، كان الرجال يرقصون ويصرخون ويلوِّحون بقُبعاتهم في الهواء، وقفز رجل وقبض على إحدى القدمَين اللتَين تركلان وتعلق بها.

بعد ذلك، صدر صوت من البوق يعلو كل ذلك الضجيج، يقول: «أنزلوه قليلًا! دعوني أصل إليه!» وتراجع مَن كانوا يمسكون الحبل، وهبط الجسد نحو الأرض وقدماه لا تزالان تركلان يمنة ويسرى، وأخرج رجل سكينًا من طيات ملابسه، وقطع الملابس ليظهر الجسد، وقطع شيئًا من الجسد، وصدرت صيحاتٌ أخرى من الحشد، وضرب الرجال في السيارات ركبهم وأطلقوا صيحات الرضا. همس الرجال الذين كانوا في السيارة مع بيتر أن هذا هو أوجدن، نجل رئيس غرفة التجارة؛ وعلى مدار اليوم التالي ولأسابيعَ تالية، كان الرجال يلكزون بعضهم بعضًا في جميع أنحاء المدينة هامسين حول ما فعلَه بوب أوجدن لجسد شون جرادي، الأمين العام «لاتحاد العمال الصناعيين الملاعين». وكان كل من لكز وهمس حوله واثقًا من أن الإرهاب الأحمر قد قُمع إلى الأبد عبْر هذه الوسيلة، وأن الأمريكية الحقيقية بنسبة ١٠٠٪ قد تأكَّدت، وأن الحل السلمي للمشكلة القائمة بين أصحاب رءوس الأموال والعمال أصبح مؤكدًا.

قد يبدو الأمر غريبًا، ولكن كان ثمَّة عضوٌ واحد من أعضاء اتحاد العمال الصناعيين العالمي يتفق معهم. كان أحد ضحايا تلك الليلة قد تعلم الدرس! عندما تمكَّن توم دوجان من الجلوس مجددًا، وكان ذلك بعد ستة أسابيع، كتب مقالًا عن تجربته، والذي نُشِر في جريدة اتحاد العمال الصناعيين العالمي، ثم نُشِر في هيئة كُتيب قرأه مئات الآلاف من العمال. قال فيه الشاعر:

«يبدأ البيان الافتتاحي لاتحاد العمال الصناعيين العالمي بالتصريح بأن الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة ليس بينهما أي شيءٍ مشترك، ولكني تعلَّمتُ من هذه الحادثة أن البيان الافتتاحي على خطأ. شَهِدتُ في هذه الحادثة أمرًا واحدًا مشتركًا بين الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة، وهذا الشيء كان سوطًا أسود. كان الجزء السفلي من السوط في أيدي الطبقة الرأسمالية، وكان الجزء العلوي من السوط على ظهور الطبقة العاملة، وهذا هو الرمز الأبدي الذي يمثل حقيقة العلاقة بين الطبقتَين!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤