القسم الحادي والستون
استيقظ بيتر صباح اليوم التالي ينتابه إحساسٌ قوي بالألم والرعب من الحياة. لقد كان فيما مضى يصرخ داعيًا لمعاقبة أولئك الحُمْر، ولكنه كان يفكر في العقاب بطريقةٍ مجردة بشكلٍ ما، شيء يمكنك التعامل معه بتلويحة من يدك. ولكنه لم يكن يدرك بشكلٍ تام الجانب الفعلي منه، لم يكن يتخيل مدى فوضويته ودمويته. كان قد ظل يستمع طوال ساعتَين وأكثر إلى صوت ارتطام السوط على الجلد البشري، وكانت كل ضربة بحد ذاتها مثل ضربة لأعصابه. كان بيتر قد تلقى جرعةً زائدة من الانتقام، ولكن حاليًّا، في صباح اليوم التالي، كان ضميره يؤنبه. كان يعرف كل واحد من أولئك الشباب، وجاءت وجوهُهم لتسكن مخيِّلته وتطارده. ماذا فعل أيٌّ منهم ليستحق هذه المعاملة؟ هل يمكنه الجزم بمعرفته أن أيًّا منهم قد يقدم على فعل أمرٍ عنيف مثل ذلك الذي كابدوه جميعًا؟
لكن كان أكثر ما يؤرق بيتر هو الخوف. أدرك بيتر، النملة، أن الصراع بين العمالقة يصبح أكثر فتكًا، وأدرك مدى خطورة موقعه تحت أقدام العمالقة. كانت شغف الجانبَين يتصاعد، وكلما زاد كرههم، زادت فرص انكشاف أمر بيتر، وأصبح مصيره أكثر رعبًا إذا ما انكشف أمره. كان من الجيد أن ماكجيفني طمأنه أن أربعةً فقط من رجال جوفي يعرفون الحقيقة، وأنهم جميعًا جديرون بأن يستأمنهم على حياته. تذكَّر بيتر تعليقًا سمعه من شون جرادي، جعله يفقد شهيته لأكثر من وجبة. قال الشاب الأيرلندي: «ثمَّة جواسيس لهم بين صفوفنا. لا بأس، إن عاجلًا أو آجلًا سنتجسس عليهم نحن أيضًا!»
عادت هذه الكلمات تتردَّد في ذهن بيتر وكأنها صوتٌ آتٍ من القبر. ماذا لو استأجر أحد الحُمْر الأثرياء شخصًا ليحصل على وظيفةٍ في مكتب جوفي! ماذا لو فعلت بعض فتيات الحُمْر ما فعله بيتر وأَغْوَينَ أحد رجال جوفي؛ الأمر الذي ليس بالمهمة الصعبة على الإطلاق! لن يقصد هذا الرجل أن يكشف أن بيتر جادج كان عميلًا سريًّا، ولكن قد يزِل لسانه بمعلومة، مثلما زلَّ لسان الصغيرة جيني وقال الحقيقة عن جاك إيبيتس! عندئذ سيعرفُ ماك هُوية الشخص الذي لفَّق التهمة له، وماذا سيفعل ماك ببيتر عندما يخرج بكفالة؟ عندما يفكِّر بيتر في أمور مثل تلك، كان يدرك ما يعنيه الذهاب إلى الحرب، وأدرك أنه لن يستفيد شيئًا من البقاء في الوطن، كان من الأفضل بالنسبة إليه أن يكون في خنادق الجبهة الأمامية! ففي حقيقة الأمر، كانت هذه حربًا، حربًا بين الطبقات، وفي جميع الحروب، عقوبة الجاسوس هي الموت.
كذلك كان بيتر يشعر بالقلق على نيل. كانت تعمل في وظيفتها الجديدة منذ ما يقرب من أسبوع، ولم يكن يعرف أي شيء عنها. كانت قد منعته عن مراسلتها خوفًا من أن يكتب شيئًا قد يكشف أمرهما. لم يكن بيده شيء سوى الانتظار؛ فإديث يوستاس تعرف كيف تعتني بنفسها. وكان لا بأس بذلك؛ فلم يكن لدى بيتر ذرة شك في قدرة إديث يوستاس على الاعتناء بنفسها. ما كان يؤرقه هو معرفته أنها كانت تعمل على «تلفيق تهمة» أخرى، وكان جل ما يخشاه هو أن يأخذها خيالها بعيدًا. ففي المرة الأخيرة عندما جمح خيالها، قدم له حقيبةً مليئة بالديناميت. لم يكن يعرف ما الذي قد ينتُج عنه في المرة القادمة، وكان يخشى التفكير في ذلك. قد تتسبَّب نيل في أن يكشف جوفي أمره، وما سيحدث حينئذٍ سيكون مروعًا بالقَدْر نفسه إذا ما كشف ماك أمره!
حصَل بيتر على نسخة من جريدة «تايمز» الصباحية، ووجد صفحةً كاملةً تتحدث عن جَلد الحُمْر، وصوَّرت العمل على أنه واجب وطني نُفِّذ بطريقةٍ بطولية؛ الأمر الذي أسعد بيتر كثيرًا بالطبع. ثم قلَّب الصفحات حتى وصل إلى صفحة المقالات، وقرأ «مقالًا رئيسيًّا» من عموديَن لم يكن سوى صرخة ابتهاج. أفاد بيتر أكثر في تسكين آلام ضميره، وعندما واصل القراءة ووجد سلسلة من المقابلات مع مواطنين بارزين يؤيدون بشدة ما فعله «حُراس الوطن»، شعر بيتر بالخجل من ضعفه، والسعادة لأنه لم يكشفه لأي أحد. كان بيتر يبذل قصارى جهده ليصبح «رجلًا حقيقيًّا»، أمريكيًّا حقيقيًّا بنسبة ١٠٠٪، وكان يشتري جريدة «تايمز» مرتَين كل يوم، صباحًا ومساءً، لتوجيهه ودعمه وإلهامه.
كان ماكجيفني قد أخبر بيتر أن يجهِّز نفسه ويتظاهر بأنه أحد شهداء أحداث الليل؛ الأمر الذي راق لحس الدعابة عند بيتر. قص بيتر الشعر من جزء من رأسه، ولصق بعض القطن فوقه، ولصقه بشريط طبي لاصق. ثم لصق قطعةً أخرى كبيرة من الشريط الطبي اللاصق بعَرْض جبينه، وشريطًا آخر متقاطعًا على وجنته، وربط معصمه بطريقة تدل بامتياز على التواء. وهكذا، توجَّه إلى البيت الأمريكي حيث كافأه ماكجيفني بضحكة من القلب، ثم بدأ يعطيه بعض التعليمات التي أعادت إلى بيتر نشاطَه الروحي المعتاد. كان بيتر سيعود إلى جبل الأوليمب مجددًا!
شرح الرجل ذو وجه الجرذ الأمر بالتفصيل. كانت ثمَّة سيدةٌ فاحشة الثراء، بل قيل إنها تملك عدة ملايين، وكانت تعلن على الملأ أنها من الحُمْر، وأنها من أشد المناهضين للحرب. منذ اعتقال الشاب لاكمان، تقدَّمت هذه السيدة وتبرَّعت بالمال لتمويل «مجلس الشعب»، و«الرابطة المناهضة للتجنيد الإجباري»، وجميع الأنشطة الأخرى التي وُصِفت بمصطلح «مؤيد لألمانيا» من باب تسهيل الأمور. كانت العقبة الوحيدة أن هذه السيدة كانت فاحشة الثراء، الأمر الذي صَعَّبَ كثيرًا من فعل أي شيء لها. كان زوجها مديرًا لبعض من بنوك نيلس أكيرمان، وكان لها معارفُ أقوياء آخرين. كان زوجها معاديًا شرسًا للاشتراكية، ومشتريًا لسندات الحرية، وكان دائم الشجار مع زوجته، ولكنه رغم ذلك لم يكن يريد أن تُسجَن، الأمر الذي وضع الشرطة ومكتب المدعي العام في وضعٍ حرج، وكذلك السلطات الفيدرالية، التي لم تكن بطبيعة الحال ترغب في إزعاج أحد أتباع ملك المدينة الأمريكية. قال ماكجيفني: «ولكن يجب فعل شيءٍ ما. لا يمكن أن تستمر هذه الدعاية الألمانية المتخفية.» لذا كان على بيتر أن يحاول استدراج السيدة جود إلى ارتكاب «فعلٍ مكشوف».
قال بيتر: «السيدة جود؟» بدا له أنه من الصدَف الغريبة أن يحمل أحد سكان جبل الأوليمب هذا الاسم. كانت السيدة العظيمة تعيشُ على قمة تل في الضواحي، ليست بعيدة عن قمة تل نيلس أكيرمان. كان من بين المغامرات التي يطمح لها الحُمْر والمناهضون للحرب خلال الأزمات هي الحَج إلى هذا القصر والحصول على بعض اللصقات الخضراء الطويلة لوضعها على جراحهم. قال ماكجيفني إن الوقت قد حان لتحرك بيتر. كان لدى بيتر العديد من الجراح التي يجب أن يُوضَع اللصق عليها، وستكون السيدة جود غاضبة من الأحداث التي وقعت الليلة الماضية، ولا شك في أنها ستعبِّر عن ذلك دون قيود.