القسم الثاني والستون
لم يكن بيتر قد شعر بمثل هذه الحماسة منذ كان في انتظار لقاء الشاب لاكمان. لم يكن قد سامَح نفسه بشكلٍ كامل على هذا الفشل المكلِّف، وها هو قد تحصَّل على فرصةٍ أخرى. استقل بيتر الترام إلى الريف، ثم سار بضعة أميال نحو القصر على قمة التل، وصعد التل عابرًا غابةً من الأشجار والحدائق الإيطالية الرائعة. وفقًا لتعليمات ماكجيفني، استجمع شجاعته، وتقدم نحو الباب الأمامي للقصر العريق ودق الجرس.
كان بيتر محترًّا ومغبرًّا من سيره الطويل، ما جعل العرق ينساب مكونًا خطوطًا على وجهه وأفسد بياض الشرائط الطبية اللاصقة الناصع. لم يكن مظهره لائقًا على الإطلاق، ووقف ممسكًا بقُبعته القشية المحطَّمة بين يديه، وكان يبدو وكأنه مشرَّد. ولكن، يبدو أن الخادمة الفرنسية التي فتحت الباب معتادة على الزوار ذوي المظهر الغريب. فلم تأمر بيتر بالذهاب إلى مدخل الخدم، أو تهدِّده بالكلاب، بل قالت فقط: «تفضَّل بالجلوس، من فضلك. سأخبر السيدة.» مع وضع تشديد اللكنة الفرنسية في نهايات الكلمات، اللكنة التي لم يكن بيتر قد سمعها من قبلُ.
وبعد قليل وصلت السيدة جود محاطة بهالة من إحسان قاطني جبل الأوليمب؛ كانت سيدةً ضخمة وسمينة، خُلقت خصوصًا لتأدية دور إلهة. شعر بيتر بالرهبة فجأة. كيف تجرأ على المجيء إلى هنا؟ لم يشعر بهذا القَدْر من الضآلة، سواء في فندق هوتيل دي سوتو بكل ما فيه من آلهة، أو في قصر نيلس أكيرمان، الملِك، كما شعر عند رؤية هذه السيدة العظيمة الهادئة البطيئة الحركة. كانت تجسيدًا حيًّا للثراء، كانت «ثريةً حقيقية». على الرغم من نظرة اللطف المُطِلة من عينَيها الزرقاوَين الواسعتَين، فإنها تركت فيه انطباعًا بتفوُّقها الساحق. لم يكن يعرف أن من واجبه كرجلٍ مهذب أن ينهض من كرسيه واقفًا باحترام عندما تدخل المكان سيدة، ولكن غريزةً ما جعلته يقف ويرمش بعينَيه أثناء توجُّهها نحوه من الطرف المقابل للغرفة الكبيرة.
قالت بصوتٍ خفيض وواضح، وهي تحدِّق في وجهه بعينَيها الزرقاوَين الواسعتَين اللطيفتَين: «كيف حالك؟» فتلعثم بيتر قائلًا: «ﻛ… كيف حالكِ، يا ﺳ… سيدة جود.»
في واقع الأمر، أصيب بيتر بالخرس تقريبًا من فرْط حيرته. هل من الممكن حقًّا أن تكون هذه الشخصية المهيبة أحد الحُمْر؟ كان من بين الأمور التي تزعجه من جميع المتطرفين هي صخبهم وعدوانيتهم، ولكن كانت الشخصية التي تقف أمامه تتمتع بسكينةٍ عظيمة في المظهر والأسلوب، فكان صوتها هادئًا ورزينًا، وكانت جميلة أيضًا، ذات بشرة ملساء، رغم كونها في منتصف العمر، وكانت تتوهج بالصحة والنظافة. كان لون بشرة نيل دولين يتوهج، ولكنها كانت دائمًا ما تضع الكثير من مساحيق التجميل، ولكن عندما تنظر إليها عن كثب، كما فعل بيتر، ستكتشف بقعًا داكنة عند حواف شعرها وعلى رقبتها. ولكن بشرة السيدة جود كانت تلمع كما يُتَخَيَّل أن تلمع بشرة الآلهة تمامًا، وكان كل شيءٍ محيطٍ بها ينم عن الثراء والجاذبية الإلهية. لم يتمكَّن بيتر من وصف الشيء الذي خلَّف عنده هذا الانطباع الأخير الطاغي. لم يكن الأمر يتعلق بارتدائها مجوهراتٍ كثيرة، أو كبيرة؛ فقد كانت السيدة جيمس متفوقة عليها في ذلك، ولم يكن يتعلق بعطرها الرقيق؛ فقد كانت نيل دولين تنثر عطرًا أكثر عذوبة في الهواء من حولها؛ رغم ذلك، شعر بيتر الفقير الجاهل، بطريقةٍ ما، بالفارق بينهما، فقد بدا له أن أيًّا من ملابس السيدة جود الغالية قد لُبِس من قبل، وأن السجاجيد الثمينة المفروشة على الأرض لم تُوطأ من قبل، حتى المقعد الذي كان يجلس عليه لم يجلس عليه أحدٌ من قبل!
كانت الصغيرة أدا روث تطلق على السيدة جود لقب «أم العالم كله»، وفجأة أصبحت أم بيتر جادج نفسه. كانت قد قرأت الصحف ذلك الصباح، وتلقَّت نصف دُزِّينة من المكالمات الهاتفية من الحُمْر الملتاعين والمستائين؛ لذا تطلب الأمر بضع كلمات فقط لكي تدرك معنى الضمادات واللصقات الطبية التي تغطي بيتر. مدت له يدها الجميلة الباردة، ومن دون مقدمات، اغرورقت عيناها الزرقاوان الكبيرتان بالدموع.
قالت: «أوه، أنت أحد أولئك الصبية المساكين! حمدًا للرب أنهم لم يقتلوك!» وقادته إلى أريكةٍ ناعمة وجعلته يستلقي بين وسائدها الحريرية. لقد تحقق حلم بيتر بجبل الأوليمب بحذافيره! خطر له أنه إذا كانت السيدة جود على استعداد لأن تؤدي دور أم بيتر جادج بشكلٍ دائم، فسيكون على استعداد للتخلي عن دوره كعميل لمكافحة الحُمْر بكل مخاطره وأحداثه العصيبة؛ سينسى الواجب، وسينسى صراعات العالم وكل ما يهم الجنس البشري، وسينضم إلى أكلة اللوتس، أولئك الذين يرشفون الرحيق على قمة جبل الأوليمب!
جلست السيدة جود تتحدَّث إليه بصوتها الناعم اللطيف، وظلَّت تراقبه بعينَيها الزرقاوَين العطوفتَين، وفكر بيتر أنه لم يشعر في حياته كلها بمثل هذه المشاعر الفردوسية. لا شك في أنه عندما ذهب لزيارة ميريام يانكوفيتش، كانت السيدة يانكوفيتش العجوز على القَدْر نفسه من العطف، وترقرقت دموع الشفقة في عينَيها بهذه الطريقة نفسها تمامًا. ولكن في نهاية المطاف، لم تكن السيدة يانكوفيتش سوى يهوديةٍ عجوزٍ بدينة تعيش في مبنًى سكني تفوح منها رائحة الصابون والغسيل نصف النظيف، وكانت يداها ساخنتَين ولزجتَين، وكان هذا هو سبب عدم شعور بيتر بالامتنان على لطفها معه على الإطلاق. ولكن كان تلقيه تلك المشاعر الرقيقة في هذه المناطق السماوية، والتحدُّث إليه بتلك الطريقة الأمومية الحميمية من قِبل السيدة جود الرائعة التي ترتدي الشيفون الأبيض الناعم الذي خرج من صندوقه للتو، أمرًا مختلفًا تمامًا!