القسم الثالث والستون

فقد بيتر الرغبة في خداع أم جبل الأوليمب هذه، وفقد الرغبة في استخراج أي أسرار منها. ووجد أنه لم يكن مضطرًّا لفعل ذلك، فقد أخبرتْه بكل ما تعرف على الفور، ومن دون أدنى تردد. كانت تتحدث مثلما يتحدث «أعضاء اتحاد العمال الصناعيين العالمي» في مقرهم، وعندما أمعَن بيتر التفكير، أدرك أن ثمَّة نوعَين من الناس يمكنهم أن يعبِّروا عن مكنونات أنفسهم بمثل هذا الانفتاح، أولئك الذين ليس لديهم ما يخسرونه، وأولئك الذين لديهم الكثير جدًّا مما قد يخسرونه لدرجة أنه لا يمكن أن يخسروه بأي حال من الأحوال.

قالت السيدة جود إن ما تعرَّض له الرجال الليلة الماضية يُعد جريمة، ويجب أن يُعاقب مرتكبوها مثلما يُعاقب مرتكبو أي جريمة، وإنها تودُّ توظيف محققين ليحصلوا على أدلة تدين الجناة. قالت أيضًا إنها تتعاطف حتى مع الحُمْر الأكثر تطرفًا، وإذا كان هناك لونٌ أشد حمرة من الأحمر، فسيكون لونها. قالت كل هذا بصوتها الهادئ الناعم. وكانت الدموع تملأ عينَيها من وقت لآخر، ولكنها كانت دموعًا مهذبة تختفي من تلقاء نفسها من دون أن تمسَّ بشرة السيدة جود، أو يكون لها تأثيرٌ ظاهر على هدوئها.

قالت السيدة جود: «إني لأعجَب من أمر أولئك الرافضين لأن يكونوا من الحُمْر الذين جعلوا همهم في الحياة كشف ظلم المجتمع الحالي.» منذ بضعة أيام خلت، ذَهَبتْ لزيارة المدعي العام، وحاولتْ أن تجعله أحد الحُمْر! ثم أخبرت بيتر عن ذلك الرجل الذي جاء لزيارتها وادَّعى أنه راديكالي، ولكنها أدركت أنه لا يعرف شيئًا عن الراديكالية، وأخبرتْه بثقتها في أنه عميلٌ حكومي. وأقرَّ الرجل بذلك في نهاية المطاف، وأظهَر لها نجمته الذهبية، ثم بدأت السيدة جود تعمل على تحويله! قضت معه ساعة أو ساعتَين تناقشه، ثم دعتْه للذهاب معها إلى الأوبرا. قالت السيدة جود بصوتٍ حزين: «وكما تعلم، رفَض دعوتي! إنهم لا يريدون أن يتحولوا، يا لهم من رجال؛ لا يريدون الاستماع إلى صوت العقل. أعتقد أن الرجل كان يخاف حقًّا من أن أؤثِّر عليه.»

قال بيتر مشفقًا: «لا أستبعد ذلك.» فقد كان هو أيضًا يخشى ذلك إلى حدٍّ ما.

قالت السيدة جود: قلتُ له: «ها أنا أعيش في هذا القصر، وفي حي المدينة الصناعي ثمَّة الآلاف من الرجال والنساء الذين يعملون على الآلات طوال اليوم كالعبيد، وأصبَحوا يعملون عليها طوال الليل أيضًا، منذ بداية الحرب. وأجمع أنا أرباح عمل هؤلاء الناس. وماذا فعلتُ لأجنيها؟ لا شيء على الإطلاق! لم أقم بأي عملٍ مفيد في حياتي.» فقال لي: «ماذا ستفعلين لو توقفت الأرباح؟» أجبتُه: «لا أعرف ماذا سأفعل. سأكون بائسة بالطبع؛ لأنني أكره الفقر، ولا أستطيع تحمُّله، إن التفكير فيه مفزع؛ انعدام الراحة، والنظافة، والأمان. لا أرى كيف تتحمل الطبقة العاملة ذلك. هذا تحديدًا سبب انضمامي إلى الحُمْر؛ فأنا أعرف أنه من الخطأ أن يكون أي شخص فقيرًا؛ فلا مبرر لذلك. لذا سأساعد في الإطاحة بالنظام الرأسمالي، حتى لو كان ذلك يعني أن أغسل الملابس لأجني قُوت يومي!»

جلس بيتر يتأملها مسحورًا بنضارة الشيفون الأبيض الثلجي الذي ترتديه. استحضرت كلماتها صورةً مروعةً إلى ذهنه، فتخيل نفسه وقد عاد فجأةً إلى مطبخ المبنى السكني؛ حيث كانت السيدة يانكوفيتش السمينة تتصبب عرقًا وهي تعمل بكد والصابون يغمر ذراعَيها حتى مرفقَيها. كان بيتر على وشك أن يقول: «لو كنتِ عملت في غسيل الملابس ليومٍ واحد، يا سيدة جود، ما كنتِ ستتكلمين هكذا!»

لكنه تذكَّر أنه يجب أن يجاريها، فقال: «إنهم رجالٌ فظيعون، أولئك العملاء الفيدراليون. لقد ضربَني اثنان منهم على رأسي ليلة أمس.» ثم تظاهر بالضعف والألم، وظهرت الشفقة على وجه السيدة جود مجددًا، وبدأت تتكلم بالمزيد من الانفتاح.

أعلنت السيدة جود قائلة: «كل هذا بسبب هذه الحرب البشعة! لقد شاركنا في الحرب من أجل تجهيز العالم للديمقراطية، ولكن يجب علينا أن نضحِّي في الوقت نفسه بجميعِ مظاهر الديمقراطية في بلادنا. سيخبرونك بأنه يجدر بك أن تصمت بينما يقتلون بعضهم بعضًا، ولكن دعهم يجرِّبون جميع وسائلهم، فلن يستطيعوا إسكاتي أبدًا! أعلم أن الحلفاء مذنبون بقَدْر الألمان، وأعلم أن هذه الحرب ستفيد المستثمرين والمصرفيين؛ يمكنهم أن يأخذوا أبنائي ويُجبروهم على الانضمام إلى الجيش، ولكنهم لن يستطيعوا أخذَ معتقداتي وإجبارَها على الانضمام إلى جيشهم. أنا مناهضة للحرب، كما أني أممية تريد أن ترى العمال ينهضون ويطردون هذه الحكومات الرأسمالية من الحُكم، ويضعون حدًّا لمذبحة البشر البشعة هذه. أنوي أن أستمر في قول ذلك ما دامت أنفاسي تتردَّد في صدري.» جلست السيدة جود ضامةً يدَيها البيضاوَين الجميلتَين معًا وكأنها تدعو، وكان هناك خاتمٌ ماسي كبير في إصبعها البنصر الأيسر يلمع ببريقٍ أخاذ، وارتسم على وجهها تعبيرٌ ينم عن قناعةٍ طفولية هادئة، وكانت ترى نفسَها بعين عقلها تُواجه جميع العملاء الفيدراليين، والمدعين العامين، والقضاة الرأسماليين، والدبلوماسيين، والجنرالات، وضباط الصف في العالم المتحضر.

واصلت السيدة جود حديثها ذاكرةً حضورها محاكمة ثلاثة رجال دين مناهضين للحرب قبل أسبوع أو أسبوعَين. كَم هو فظيع أن يُزَج في السجن بمسيحيين في بلدٍ مسيحي لمجرد محاولة تكرار كلمات المسيح! قالت السيدة جود: «كنتُ أتميز غضبًا لدرجة أنني كتبتُ رسالةً للقاضي. قال زوجي إنني سأُتَّهَم بازدراء المحكمة إذا ما أرسلتُ رسالةً إلى القاضي أثناء المحاكمة، لكني ردَدتُ عليه بأن ازدرائي لتلك المحكمة لا يمكن التعبير عنه بكلماتٍ مكتوبة. مهلًا …»

ونهضت السيدة جود من مقعدها وتوجهت نحو مكتب بجوار الحائط، وأخذت نسخة من الرسالة، وقالت: «سأقرؤها عليك.» استمع بيتر إلى بيان السيدة البلشفية الأولمبية …

إلى فخامة القاضي:

عندما دخلتُ قاعة المحكمة، رفعتُ بصري نحو قُبتها الزجاجية الملونة التي كُتِب عليها أربع كلمات: السلام. العدل. الحقيقة. القانون، ومنحتني تلك الكلمات شعورًا بالأمل. كان يقف أمامي رجال لم ينتهكوا أي حقوقٍ دستورية، ولم يُضمِروا في نفوسهم أي نزعةٍ إجرامية، بل إنهم مجرد معارضين للعنف بجميع صوره.

استمرت المحاكمة. ونظرتُ مرةً أخرى إلى القبة الزجاجية الملونة الجميلة، وهمستُ لنفسي بتلك الكلمات ذات الوقع المجيد: «السلام. العدل. الحقيقة. القانون.» استمعتُ إلى مرافعات المدَّعين العامين؛ كان القانون في أيديهم سكينًا صلبة حادَّة قاسية تبحث بإصرار وبلا هوادةٍ عن نقطة ضعفٍ في درع ضحاياها. استمعتُ إلى الحقائق التي يعرضونها، وكانت في حقيقتها كذبًا. فكان سلامهم حربًا قاسيةً دموية، وكان عدلهم شبكةً لاقتناص ضحاياهم بأي ثمن، على حساب أي شيءٍ ما عدا مجد مكتب المدعي العام.

انفطَر قلبي. ولم أتمكَّن إلا من أن أطرح على نفسي السؤال الموغل في القدم:

ماذا يمكننا، نحن الشعب، أن نفعل؟ كيف يمكننا أن نجلب السلام، والعدل، والحقيقة، والقانون إلى العالم؟ هل يجب أن نركع ونطلُب من خدَّامنا العامِّين أن يضمَنوا العدالة لمن لا حول لهم ولا قوة، بدلًا من تلك المحاكمات التي لا تنتهي لأكثر نفوس العالم نبلًا! ستُقرِّر أن هؤلاء الرجال مذنبون، وستحكُم عليهم بالسجن خلف القضبان الحديدية التي لا ينبغي أن تكون من أجل البشر، بغضِّ النظر عما ارتكَبوا من جرم، إلا إذا كنتَ تريد أن تصوِّرهم كوحوش. هل هذا هو هدفك، يا سيدي؟ يبدو أنه كذلك، لهذا السبب أقول إنه يجب علينا أن نقلب النظام الذي يقسو على البشرية، بدلًا من مساعدتها ورفعها.

المخلصة لك من أجل تحقيق السلام. العدل. الحقيقة. القانون.
ماري أنجيليكا جود.

ماذا بإمكان المرء أن يفعل مع امرأة مثل تلك؟ كان بوسع بيتر أن يدرك حَيرة القاضي، ومكتب المدعي العام، وقسم الخدمة السرية لشركة تراكشن تراست، وكذلك حَيرة زوج السيدة جود! كان بيتر متحيرًا أيضًا، ما الفائدة المرجوة من حضوره إلى هنا للحصول على المزيد من المعلومات؛ فقد ارتكبت السيدة جود بالفعل جريمة ازدراء المحكمة في رسالتها، وأباحت فيها بجميع المعلومات التي كان من الممكن أن تبوح بها لأي عميلٍ فيدرالي؟ لقد أخبرت هذا الرجل بأنها تبرعت بعدة آلاف من الدولارات لمجلس الشعب، وأنها تعتزم التبرع بالمزيد. كما دفعت كفالة عددٍ كبير من الحُمْر ومناهضي الحرب، وكانت تعتزم دفع كفالة ماكورميك وأصدقائه فور اضطرار المحاكم الرأسمالية الفاسدة لإطلاق سراحهم بكفالة. قالت: «أعرف ماكورميك جيدًا، إنه شابٌّ رائع. لا أعتقد أن له أي علاقة بقنابل الديناميت.»

ظل بيتر جالسًا في مكانه طوال الوقت مسحورًا بالكامل بتأثير ثراء السيدة جود. كان بيتر يعيش بين أكَلة اللوتس ناسيًا صراعات العالم واهتماماته، كان مستلقيًا على أريكةٍ حريرية يشرب الرحيق مع أولئك المتألقين من جبل الأوليمب. ولكن فجأةً عاد إلى بيتر حسُّ الواجب، وشعر كما لو كان شخصًا يستيقظ من حُلم على صوت مُنبِّه. كانت السيدة جود صديقة لماك، وكانت تقترح أن تُطلِق سراح ماك من السجن بكفالة! ماك، عضو جماعة الحُمْر الأكثر خطورة على الإطلاق! رأى بيتر أنه يجب أن يجد ما يُدين هذه المرأة على الفور!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤