القسم الرابع والستون
نهض بيتر فجأةً من رقدته بين الوسائد الحريرية، وبدأ يُخبر السيدة جود عن الخطة الجديدة للجماعة المناهضة للتجنيد الإجباري، لإعداد مجموعة من التعليمات الموجَّهة للمعارضين من الشباب ذوي الضمير الحي. قال بيتر إن الغرض من هذه التعليمات هو تقديمُ نصائح للشباب بشأن حقوقهم القانونية والدستورية. وكانت فكرة ماكجيفني أن يُدخِل بيتر وسط هذه التعليمات بعض العبارات التي تنصح الشباب برفض الخدمة العسكرية، إذا طُبِعت هذه التعليمات ووُزعت، فستجعل جميع أعضاء الجماعة المناهضة للتجنيد الإجباري عُرضة لقضاء عشرة أو عشرين عامًا في السجن. ونبه ماكجيفني بيتر لأن يفعل ذلك بحذَرٍ شديد، ولكن رأى بيتر مرةً أخرى أنه لا حاجة إلى الحذَر. فقد كانت السيدة جود على استعدادٍ تمام لنصح الشباب برفض الخدمة العسكرية. وقالت إنها نصحت كثيرين منهم بذلك بالفعل، وفي ذلك أبناؤها المتعطشون للدماء، للأسف، مثل والدهم.
حان وقت الغداء، وسألت السيدة جود بيتر عما إذا كان قادرًا على الجلوس إلى الطاولة، وتغلب فضول بيتر على حذَره. كان يريد أن يرى أفراد عائلة جود وهم يرشفون الرحيق من الأكواب الذهبية. وتساءل، هل سيكون الزوج الرافض لتصرفات زوجته والأبناء المتعطشون للدماء حاضرين؟
لم يكن أحد موجودًا سوى رفيقةٍ مُسِنة، ولم يرَ بيتر أي أكوابٍ ذهبية. ولكنه رأى بعض الأواني الخزفية الرائعة التي كانت هشة لدرجة أنه كان يخشى لمسها، ورأى صفًّا من الأدوات الفضية التي كانت ثقيلةً لدرجة أنه كان يُفاجأ كلما التقط إحداها. كما رأى أطعمةً معدة بطرقٍ غريبة ومعقَّدة؛ فقد كانت مفرومةً تمامًا ومغطاةً بالصلصات لدرجة أنه لم يستطع أن يتعرف على أي شيءٍ مما أكل، باستثناء الخبز المدهون بالزبد.
كان يرتجف في داخله من الحرج أثناء الأكل، لكنه أنقذ نفسه باتباع وصفة السيدة جيمس التي تنص على مراقبة ما يفعله الآخرون ثم محاكاته. فكلما أُحضر طبقٌ جديد، كان بيتر ينتظر، وعندما يرى السيدة جود تلتقط شوكةً معينة أو ملعقةً معينة، كان يلتقط مثيلتَها، أو الأقربَ منها شبهًا طبقًا لتخمينه. تمكَّن من صَب كامل تركيزه على هذه العملية، فلم يكن عليه أن يتحدث؛ فقد كانت السيدة جود تسكب تيارًا مستمرًّا من الفتن والخيانة العظمى، ولم يكن على بيتر فعل شيء سوى الاستماع والإيماء برأسه. وتصوَّرت السيدة جود أن فمه ممتلئ بالطعام لدرجة أنه لا يستطيع النطق.
بعد الغَداء، خرجا إلى الشرفة الواسعة التي تطل على منظرٍ طبيعي رائع. وأجلست المضيفة بيتر في كرسي شرفة ناعم وسط الكثير من الوسائد، ثم أشارت بيدها نحو المدينة البادية في الأفق بضبابها الأسود الكثيف.
قالت السيدة جود: «هذا هو المكان الذي يعمل فيه عبيدي لكي أجني أنا الأرباح. من المفترض أن يبقوا هناك، في «مكانهم» كما يُطلق عليه، وأن أبقى أنا هنا في مكاني. إذا أرادوا تبديل الأماكن، فسيُطلق على ذلك اسم «ثورة»، أي «عنف». ما يثير العجب في نفسي هو أنهم يستخدمون القليل جدًّا من العنف، ولا يشعرون بالكثير. انظر إلى أولئك الرجال الذين يُعذَّبون في السجن! هل يحق لأحد أن يلومهم إذا ما لجَئوا إلى العنف؟ أو إذا حاولوا الهروب؟»
أوحى ذلك بفكرةٍ سريعة ومثيرة لبيتر. ماذا لو دُفعت السيدة جود للتحريض على تحرير السجناء عنوة!
فقال بيتر مقترحًا: «ربما يكون من الممكن أن نساعدهم على الهروب.»
سألته السيدة جود وقد ظهرت على وجهِها أماراتُ الانفعال للمرة الأولى خلال المقابلة: «هل تظن ذلك؟»
قال بيتر: «ربما. أولئك السجَّانون يقبلون الرشاوى، كما تعلمين. لقد التقيتُ أغلبهم عندما كنتُ في ذلك السجن، وأظن أنني قد أتمكَّن من التواصل مع واحد أو اثنين منهم ممن يمكن أن يقبلوا الرشاوى. هل تريدين أن أجرِّب ذلك؟»
قالت السيدة جود في تردُّد: «حسنًا، لا أعرف. هل تظن حقًّا أن …»
قاطعها بيتر قائلًا: «تعرفين أنه لم يكن يجب أن يُسجنوا من الأساس!»
قالت السيدة جود: «هذا صحيحٌ بالتأكيد!»
«وإذا كانوا تمكَّنوا من الهرب دون إلحاق الأذى بأي شخص، وإذا لم يُضطروا لقتال السجَّانين، فلن يقع أيُّ ضررٍ حقيقي …»
كان هذا هو أقصى ما تمكَّن عقل بيتر من ابتكاره في مؤامرته المفاجئة. ثم سمع فجأة صوتًا آتيًا من خلفه يقول: «ماذا يعني ذلك؟» كان صوتُ رجلٍ جَهْوري يرتَج من فرْط الغضب، فنهض بيتر من وسط وسائده الحريرية، وأدار رأسه نحو مصدر الصوت، ورفع إحدى ذراعَيه في حركةٍ دفاعية لا تصدر إلا من شخصٍ ظل يتعرض للضرب منذ طفولته المبكرة.
كان ثمَّة رجل يتقدم نحوه؛ ربما لم يكن الرجل ضخم الجثة بصورةٍ غير طبيعية، ولكن لا شك في أنه بدا كذلك في عينَي بيتر. كان وجهه الحليق محمرًّا من فرْط الغضب، وكان قد عقد حاجبَيه بقوة، وكانت يداه مضمومتَين في تعبير ينم عن خطورة. ثم قال بصوتٍ كالفحيح: «أيها القذر اللعين! يا لك من شيطان!»
صاحت السيدة جود بعجرفة: «جون!» لكن كان الأمر أشبه بصياحها في وجه عاصفةٍ رعدية تتقدم. وثَب الرجل على بيتر، فابتعَد بيتر، الذي تجنب المئات من الضربات على مدار حياته، عن الكرسي المريح بشقلبة، وهبَّ واقفًا، واتجه نحو سلَّم الشرفة. كان الرجل في إثره مباشرة، وعندما وصل بيتر إلى درجة السلَّم الأولى، ركل الرجل بيتر بقدمه وأصابه في مؤخرة سرواله مباشرة، وكانت درجة السلَّم الأولى هي الدرجة الوحيدة من بين عشر أو اثنتَي عشرة درجة في سلَّم الشرفة التي لمسها بيتر خلال نزوله.
عندما وصل بيتر إلى قاعدة السلَّم، لم يتوقف لإلقاء نظرةٍ خلفه حتى؛ كان بوسعه أن يسمع صوت أنفاس السيد جود، وبدا أنه خلفه مباشرة، وركَض بيتر في ممر الحديقة كما لم يركُض في حياته من قبل. ومن وقت لآخر، كان السيد جود يوجه ركلةً أخرى، ولكن كان يُضطر إلى التوقف قليلًا ليفعل، الأمر الذي ساعد بيتر على الابتعاد لمسافة تكفي لعدم وصول الركلات إليه. في نهاية المطاف، استسلم المُطارِد، واندفع بيتر عبْر بوابات ضيعة جود إلى الطريق الرئيسي.
ثم نظر خلفه، وعندما رأى أن السيد جود كان بعيدًا عنه، توقف واستدار، وهز قبضته المضمومة بأحد تعبيرات الشارع الذي ينم عن التهديد، وصرخ: «تبًّا لك! تبًّا لك!» وانتابته عاصفةٌ جامحة من الغضب العاجز. فأطلق المزيد من السباب والتهديدات، ومن بينها بعض الكلمات الغريبة، بعض الكلمات غير المفهومة: «نعم، أنا من الحُمْر، فيلعن الرب روحك، وسأظل من الحُمْر!»
نعم، صرخ بيتر جادج، صديق القانون والنظام، بيتر جادج، الأخ الأصغر للأغنياء، قائلًا: «أنا من الحُمْر، وسنُفجِّرك يومًا ما بسبب فعلتك هذه؛ أنا وماك سنضع قنبلةً تحتك!» استدار السيد جود وسار بفخر مُحتَقِر ليبدأ الخلاف الآخر داخل منزله.
سار بيتر على الطريق مبتعدًا، يربِّت على الأماكن التي تؤلمه وينتحب في نفسه. نعم، أصبح بيتر يفهم بالضبط ما كان يشعُر به الحُمْر. في هذا المكان، تعيش هذه الطفيليات الثرية التي تستغل ما ينتجه العمال وتعيش في قصورٍ ضخمة بمفردها، ولكن ماذا فعلوا لكسب هذه الأموال؟ ماذا سيفعلون من أجل الفقراء، سوى احتقارهم، وركل مؤخراتهم؟ إنهم مجموعةٌ من الوحوش العنيدة! وفجأةً، رأى بيتر أحداث الليلة الماضية من منظورٍ جديد، وتمنى لو تمكَّن من جمع كل الأعضاء الأصغر سنًّا في غرفة التجارة وجمعية التجار والمصنعين بالإضافة إلى السيد جود حتى يتمكَّن من إرسالهم إلى الجحيم دفعةً واحدة.
لم تكن تلك فكرةً عابرة سببها تعكُّر مزاجه. كانت مؤخرة بيتر تؤلمه لدرجة أنه تحمل بمشقَّة رحلة العودة إلى المنزل مستقلًّا الترام، وظل يخطط طوال الطريق لكيفية معاقبة السيد جود. تذكَّر فجأة أن السيد جود أحد شركاء نيلس أكيرمان، وكان بيتر يملك جاسوسًا داخل منزل نيلس أكيرمان، وكان يُحَضِّر «تهمةً ملفَّقة!» سيرى بيتر إذا كان بوسعه العثور على طريقة لبدء مؤامرة تفجير بالديناميت ضد السيد جود! سيبدأ حملة ضد السيد جود داخل الحركة الراديكالية، وربما تمكَّن من التوصُّل لطريقة لجعل مجموعة من «أعضاء اتحاد العمال الصناعيين العالمي» يحملونه ويقيِّدونه ويضربونه بسوطٍ أسودَ طويل!