القسم السادس والستون
ذهبوا إلى مكتب قسم الخدمة السرية لشركة تراكشن تراست، المكان الذي لم يُسمَح لبيتر بالذهاب إليه حتى هذه اللحظة. كان المكتب في الطابق الرابع عشر من مبنى مرشانتس تراست، وكانت ثمَّة لافتةٌ معلقة على الباب، كُتِب عليها: «شركة الأراضي والاستثمارات الأمريكية. تفضل بالدخول.» عندما تدخل، ترى مكتب عقاراتٍ تقليديًّا، ولم تكن لتصل إلى الغرف السرية حيث يؤدي جوفي وفريقه أعمال الجاسوسية لصالح الشركات الكبرى في المدينة إلا بعدما تعبُر الكثير من الأبواب.
أُلقي بيتر داخل واحدة من هذه الغرف حيث كان جوفي يقف، وبمجرد أن رأى جوفي بيتر، هاجمَه على الفور وهو يهزُّ قبضته أمام وجهه صارخًا: «أيها الجرو القذر! أيها الجرو البائس! أيها الكلب القذر المخادع!» وأضاف عددًا من الأوصاف الأخرى المستمدة من الكلاب.
كانت ركبتا بيتر ترتجفان، وأسنانه تصطك، وكان يراقب كل حركة من أصابع جوفي الغاضبة، وجميع قسمات وجه جوفي الغاضبة. كان بيتر على أتم الاستعداد لأن يتعرض لأقسى تعذيبٍ سيتعرض له في حياته، ولكنه أدرك بمرور الوقت أنه لن يتعرض للتعذيب، بل سيتعرض للتوبيخ وصَب الغضب فقط، ولم تكن ثمَّة كلماتٌ يمكنها أن تصف موجة الراحة التي غمرت روحه. فعلى مدار حياته كصعلوك، تلقى بيتر إهاناتٍ أكثر مما يمكن أن يفكر جوفي وإن أمضى الشهر المقبل كاملًا في المحاولة. إذا كان كل ما سيفعله جوفي هو أن يذرع الغرفة جيئة وذهابًا، وأن يهزَّ قبضته أمام وجه بيتر كلما مَر أمامه، وأن يقارنه بجميع أنواع الحيوانات المنزلية الأليفة، فيمكن لبيتر أن يتحمل طوال الليل دون أن يتذمر.
توقف عن محاولة معرفة ما حدث، فقد أدرك أن هذا يدفع جوفي إلى الدخول في نوبات غضب جديدة. لم يكن جوفي يريد التحدث إلى بيتر، ولم يكن يريد سماع صوت بيتر المنتحب كصوت جرو. كل ما كان يريده هو التنفيس عن غضبه، وأن يستمع إليه بيتر بإذعانٍ تام، وهذا ما فعله بيتر. ولكن في الوقت نفسه، كان عقل بيتر يعمل بسرعةٍ خارقة، وكان يحاول التقاط تلميحات من شأنها أن تدُله على ما يعنيه كل ما يحدث من حوله. كان ثمة أمرٌ وحيد واضح تمامًا، أن ثمَّة ضررًا، أيًّا كان، قد وقع؛ لقد انتهى الأمر، لقد تم كل شيء ولم يتبقَّ سوى الجنازة. لقد أخذوا أموال بيتر لدفع تكاليف جنازته، وكان هذا هو كل ما كانوا يأملون في الحصول عليه منه.
بمرور الوقت، وصلته تلميحاتٌ أخرى. صاح جوفي قائلًا: «إذن أنت تظن إذن أنك قادر على الاستقلال بعملك!» وكال لبيتر لكمةً صاعدة بقبضته التي كانت مستقرة تحت أنف بيتر كادت تطيح برقبته من على كتفَيه.
فكَّر بيتر: «أها! لقد كشف نيلس أكيرمان أمري!»
«ظننتَ أنك ستجني ثروة وتتقاعد مدى الحياة من ريعها!»
نعم، لا شك في أن هذا هو الأمر! ولكن ما الذي كشفه نيلس أكيرمان وكان سيئًا لهذه الدرجة؟
«كنتَ ستمتلك جاسوسك الخاص، وتُنشئ مكتبك الخاص، وربما تطردني!»
فكَّر بيتر: «يا إلهي! من أخبره بذلك؟»
ثم فجأة توقف جوفي أمامه، وسأله: «هل هذا ما كنت تظن؟» وكرَّر السؤال، وبدا أنه يريد إجابة بالفعل، فتلعثم بيتر وهو يقول: «ﻟ… ﻟ… لا، يا سيدي.» ولكن يبدو أن الإجابة لم تُرضِ جوفي لأنه أمسك بأنف بيتر ولواها بطريقة جعلت الدموع تنهمر من عينَيه.
«ماذا كنت تظن إذن؟» ارتسمت ابتسامةٌ ساخرة على وجه كبير المحققين، ثم نظر إلى بيتر مُطلِقًا ضحكة ملؤها الحقد، وقال: «أعتقد أنك ظننتَ أنها أحبَّتك حقًّا! هل هذا صحيح؟ ظننتَ أنها أحبتك حقًّا؟» وضحك ماكجيفني، وهاميت، وجوفي معًا، وتخيلهم بيتر شياطين تسخر منه في أعمق حفرة في الجحيم. قوضت تلك الكلمات جميع أعمدة قلعة أحلام بيتر وحوَّلتها إلى أنقاض من حوله. لقد كشف جوفي أمر نيل!
خلال رحلاته بالسيارة إلى مكتب جوفي كان بيتر يذكِّر نفسه مرارًا وتكرارًا بأوامر نيل: «التزم بقصتك، يا بيتر! التزم بقصتك!» كان بيتر ينوي الالتزام بقصته بغضِّ النظر عما قد يحدث، ولكنه أدرك الآن أن كل شيء قد ضاع في لمح البصر. كيف يمكنه الالتزام بالقصة بعدما كشفوا أمر نيل، وبعدما لم تعُد نيل نفسها ملتزمة بها؟
رأى جوفي هذه الأفكار باديةً بوضوح على وجه بيتر، وتحوَّلت ابتسامته الساخرة إلى عبوس، وقال: «إنك تفكر في إخباري بالحقيقة الآن، أليس كذلك؟ حسنًا، من سوء حظك أنه لم يتبقَّ شيء لتقوله!»
استدار مجددًا وعاد ليذرع الغرفة جيئة وذهابًا. كان الضغط الذي تسبَّب به الغضب في نفسه كبيرًا لدرجة أنه احتاج وقتًا أطول ليتخلص منه. ولكن جلس كبير المحققين إلى مكتبه في نهاية المطاف، وفتح درج مكتبه وأخرج ورقة، وقال: «أراك جالسًا تحاول التفكير في كذبةٍ جديدة تخبرني بها.» ولم يحاول بيتر نفي ذلك؛ لأن أي نوع من النفي سيتسبب في نوبة غضب جديدة. قال جوفي: «حسنًا، سأقرأ عليك هذا، وسيمكنك حينئذ أن تدرك مدى صعوبة موقفك، ومدى حماقة كل ما فعلت.»
بدأ يقرأ الرسالة، وقبل أن يسمع بيتر جملة واحدة، عرف أن الرسالة من نيل، وأدرك أن قلعة أحلامه قد ذهبت أدراج الرياح. لم تكن أنقاض سرجون ونينوى أكثر دمارًا من آماله المحطمة!
قالت الرسالة: «عزيزي السيد جوفي، تؤسفني هزيمتك، ولكن خمسون ألف دولار مبلغ ضخم من المال، ولقد تعبنا جميعًا من العمل ونحتاج إلى الراحة. أرسلت هذه الرسالة لأخبرك بأن تيد كروثرز قد سرق خزينة منزل نيلس أكيرمان، وأصبح في حوزتنا بعض سندات الحرية وبعض المجوهرات التي نظن أنها تساوي خمسين ألف دولار، وأنت تعرف أن تيد بارع في تقدير قيمة المجوهرات.
لا شك في أنك ستكتشف أنني كنت أعمل في منزل السيد أكيرمان وستطاردني بلا هوادة؛ لذا من الأفضل أن أخبرك بذلك، وأخبرك بأنك لن تستفيد شيئًا من القبض علينا، وذلك لأننا نملك جميع المعلومات الداخلية المتعلقة بتلفيق التهم لجوبر، وبجميع الأعمال الأخرى التي فعلها مكتبك في المدينة الأمريكية خلال العام الماضي. يمكنك أن تسأل بيتر جادج وسيخبرك. فأنا وبيتر من رتب مؤامرة التفجير بالديناميت، ولكن لا تلم بيتر؛ لأنه لم يفعل إلا ما قلتُ له أن يفعله. إنه لا يملك الذكاء الكافي لأن يكون خَطِرًا، وسيكون أحد أفضل عملائك إذا تعاملت معه بلطف وأبقيته بعيدًا عن النساء. يمكنك أن تفعل ذلك بسهولة إذا لم تدعه يحصل على أي أموال، فهو ليس حسن الطلعة كما تعلم، ولن تزعج النساء أنفسهن معه إذا لم تدفع له الكثير من المال.
سيخبرك بيتر بكيفية تلفيقنا لعملية التفجير هذه، ولا شك في أنك لا ترغب في أن يعرف الحُمْر شيئًا عن ذلك، وثق في أنه إن قُبض عليَّ أو على تيد، فسنعثر على طريقة للوصول إلى الإعلام الأحمر وإخباره بجميع تفاصيلها. إذا ما التزمت الصمت، فلن ننبس ببنت شفه، وستحصل على مؤامرة تفجير سليمة تمامًا مع جميع الأدلة التي تحتاج إليها لإنهاء نشاط الحُمْر، ويمكنك أن تعتبر أنها كلفتك خمسين ألف دولار، وأن هذا الثمن كان رخيصًا؛ لأن نيلس أكيرمان دفع أكثر من ذلك بكثير مقابل عملك، ولكنك لم تحصل مطلقًا على مبلغ يبلغ حتى نصف هذا المبلغ. أعرف أنك ستستشيط غضبًا عندما تقرأ هذه الرسالة، ولكن فكر في الأمر وحافظ على هدوئك. أرسلت لك هذه الرسالة مع رسول حتى تتمكن من الوصول إلى نيلس أكيرمان سريعًا وتمنعه من إخبار الشرطة بشيء؛ لأنك تعرف إلام ستئول الأمور إذا ما اكتشف هؤلاء الصغار ما حدث، فستتسرب الأخبار إلى الحُمْر والصحف، وستنتشر في جميع أنحاء المدينة، وهو ما سيضر بمؤامرتك الملفقة. وأنت تعرف أنه بعدما ضُرِب الحُمْر وعُلِّق شون جرادي، سيضرك كثيرًا أن تخرج شائعة تقول إن الديناميت زُرِع بيد رجالك. سأختفي وتيد عن الأنظار، ولن نبيع المجوهرات إلا بعد فترة، وسيكون كل شيء على خير ما يرام.
مع فائق احترامي،
إديث.
ملاحظة: ليس من العدل أن نلوم بيتر على غبائه عندما يتعامل مع النساء، فقد كان سيخدمك على الوجه الأمثل لولا جمالي!»