القسم الثامن والستون

كانت هذه هي نهاية الحياة الرغدة بالنسبة إلى بيتر جادج. لم يعد بإمكانه أن يتنقل بين الطبقات السماوية لجبل الأوليمب. لم يرَ ثانيةً خادم السيد أكيرمان الصيني أو خادمة السيدة جود الفرنسية. لن يبتسم له بعد الآن المائتي وأربعة وعشرون صبي ملائكي المرسومون على سقف بهو فندق هوتيل دي سوتو. سيأكل بيتر وجباته الآن وهو جالس على مقعد صغير أمام منضدة المطعم، سيصبح بروليتاريًّا متواضعًا حقيقيًّا، سيصبح «جيمي هيجينز» مجاله. ألقى خلف ظهره أحلامه الوردية بمراكمة الكفاءات، وارتضى بعمله اليومي الشاق للتعرف على المحرضين، وزيارة منازلهم ومراقبة أنشطتهم، والحصول على عينات من الكتب التي يتداولونها بينهم، وسرقة رسائلهم ودفاتر العناوين والملاحظات، وحمل كل هذا إلى الغرفة ٤٢٧ في البيت الأمريكي.

كانت هذه الفترة مشحونة. فعلى الرغم من الجلد والإعدامات والزج في السجون — أو ربما بسبب هذه الأمور تحديدًا — كانت الحركة الراديكالية تغلي. فقد أعاد اتحاد العمال الصناعيين العالمي تنظيم صفوفه سرًّا، وبدأ يجمع التمويل للدفاع عن سجنائه، كما كان الاشتراكيون سواء كانوا متطرفين أو معتدلين مشغولين، ولم يتوقف القادة العماليون مطلقًا عن التحريض فيما يتعلق بقضية جوبر. الفارق الوحيد هو أنهم ضاعفوا من أنشطتهم، فقد كانت السيدة جوبر عُرضةً لأن يُحكم عليها بالإعدام. في روسيا، تظاهر حشد من الفوضويين أمام السفارة الأمريكية، بسبب سوء معاملة رجل يطلقون عليه اسم «جوبا». على أي حال، هذا ما حملته البرقيات من أخبار، ونجحت جمعيات توزيع الأخبار في البلاد في منع التسريبات عن قضية جوبر لدرجة أن محرري الصحف في نيويورك لم يكونوا يعرفون أي أخبار أخرى، وطبعوا الاسم كما جاء، «جوبا!» الأمر الذي منح الراديكاليين فرصة جيدة للسخرية منهم، ولأن يتساءلوا عن مدى اهتمامهم بالعمال!

بدا أن الحُمْر المتطرفين يديرون كل شيء في روسيا وفقًا لطريقتهم. ففي أواخر الخريف، أطاحوا بالحكومة الروسية، وسيطروا على البلاد، وبدءوا في عقد سلام مع ألمانيا؛ الأمر الذي وضع الحلفاء في مأزق رهيب، وأدخل كلمة جديدة إلى المفردات الشعبية، كلمة «بلشفي» المخيفة. بعد ذلك، إذا ما ادعى رجل ملكية البلدية لعربات الثلج، فكان كل ما عليك فعله هو أن تقول إنه «بلشفي» وسينتهي أمره.

ولكن جاء رد المتطرفين على حملة الإساءة هذه بأن اعتنقوا الاسم وحملوه بفخر. واعتمد الحزب الاشتراكي المحلي في المدينة الأمريكية وسط عاصفة من التصفيق قرارًا بأن يطلق على نفسه اسم «الحزب البلشفي المحلي»، وكان كل شيء يسير وفق ما يريد «اليساريون» لبعض الوقت. كان قائد اليساريين رجل يدعى هربرت أشتون، محرر جريدة «كلاريون» المدينة الأمريكية، جريدة الحزب. كان أشتون صحفيًّا نحيلًا شاحبًا ساخرًا للغاية، وكان يبدو أن أشتون قد أمضى جل حياته في دراسة المؤامرات الرأسمالية الدولية، ولم يسمع أحد بحجة لم يتمكن من الرد عليها. كان يرى الحرب كصراع بين الأساليب التجارية التقليدية القديمة لبريطانيا العظمى، التي وصف حكومتها بأنها «مؤسسة تجارية ضخمة»، وأساليب التجارة الألمانية الحديثة الأكثر جرأة.

كان من شأن أشتون يأخذ الصيغ التي يستخدمها دعاة الحرب ويتعامل معها كما يتعامل كلب صغير مع جرذ. إنها حرب من أجل الديمقراطية إذن! كان المصرفيون في باريس على مدار العشرين عامًا الماضية هم رعاة القياصرة الروس الذين نفوا مئة ألف شخص إلى سيبيريا لجعل العالم آمنًا لإرساء الديمقراطية! دخلت الإمبراطورية البريطانية أيضًا الحرب حاملةً راية الديمقراطية؛ أولًا في أيرلندا، ثم في الهند ومصر، ثم في أحياء وايتشابيل الفقيرة! قال أشتون؛ لا، يجب ألا ينخدع العمال بهذا الهراء. لقد أقرضت شركات وول ستريت بضع مليارات من الدولارات للمصرفيين المتحدين، والآن يُطلَب من الشعب الأمريكي أن يسفك دمه لتأمين العالم لاسترداد تلك القروض!

ظل بيتر يحث ماكجيفني على وضع حد لهذا النوع من التحريض، وأخبره الرجل ذو وجه الجرذ أن وقت العمل قد حان. كان من المقرر عقد اجتماع جماهيري كبير للاحتفال بالثورة البلشفية، ونبه ماكجيفني بيتر لأن يبقى بعيدًا عن الأنظار خلال ذلك الاجتماع؛ لأنه قد تحدث بعض الاشتباكات خلاله. تخلى بيتر عن شارته الحمراء والزر الذي يحمل شعار اليدين المضمومتين وصعد إلى الرواق واختفى وسط الزحام. رأى بيتر الكثير من رجال «الشرطة السرية» الذين يعرفهم موزَعين بين الحضور، كما رأى رئيس الشرطة ورئيس مكتب المحققين في المدينة. عندما وصل هربرت أشتون إلى منتصف خطابه، تقدم رئيس الشرطة إلى المنصة وأمر رجاله بالقبض عليه، وحال العشرات من رجال الشرطة بين السجين والجمهور الغاضب.

اعتقلت الشرطة إجمالًا سبعة أشخاص؛ وفي صباح اليوم التالي، عندما رأوا مدى الحماس الذي أثارته أفعالهم في الصحف، قرروا الذهاب لما هو أبعد من ذلك. فاقتحمت مجموعة من رجال جوفي، بمشاركة مجموعة أخرى من مكتب المدعي العام، مكتب صحيفة أشتون «كلاريون»، وطردوا طاقم التحرير إلى الطابق السفلي أو ألقوا بهم من النوافذ، وبدءوا يحطمون الآلات الكاتبة وآلات الطباعة، واستولوا على قوائم الاشتراكات وأحرقوا طنًا أو اثنين من «الكتب» في الفناء الخلفي. كما اقتحموا مقر الحزب «البلشفي المحلي»، وألقوا القبض على سبعة من أعضاء اللجنة التنفيذية، وحدد القاضي كفالة قيمتها خمسة وعشرين ألف دولار لكل منهم، وعلى مدار أسبوع أو أسبوعين، ظلت صحيفة «تايمز» المدينة الأمريكية ترسل رجلًا إلى مكتب جوفي يوميًّا، وكان جوفي يعطيه موادًا كثيرة من إعداد بيتر تُظهِر أن برنامج الاشتراكيين هو برنامج للإرهاب والقتل.

كان بيتر يقدم هذه الخدمة لبلاده بشكل يومي تقريبًا. فقد اكتشف أين أخفى اتحاد العمال الصناعيين العالمي مطبعةً كانوا يستخدمونها لطباعة الدوريات والمنشورات، وداهمت الشرطة هذا المكان، وصادرت المطبعة، وزجت بنصف دُزِّينة من المحرضين الآخرين في السجن. أعلن هؤلاء الرجال إضرابًا عن الطعام، وقرروا الموت جوعًا احتجاجًا على الضرب المبرح الذي نالوه، ثم التقت بعض النساء اللواتي كن في حالة هستيرية في منزل أدا روث، وأعددن منشورًا احتجاجيًّا، وكان بيتر يراقب توزيع هذا المنشور، وصودرت جميع نسخه في مكتب البريد، وبذلك أُحبِطت مؤامرةٌ أخرى. وأصبح لدى الخدمة السرية حاليًّا عدة رجال يعملون في مكتب البريد، يفتحون مراسلات المحرضين سرًّا، وكانوا يصدرون من وقت لآخر أمرًا يمنع توصيل المراسلات إلى الأشخاص الذين لا يرون أن أفكارهم سليمة.

كما ألغت إدارة البريد الأمريكية امتيازات البريد من الدرجة الثانية لجريدة «كلاريون»، وفي وقت لاحق حظرت مراسلات الجريدة تمامًا. بعد ذلك تولى بعض «الرفاق» توصيل نسخ الجريدة إلى البلدات المجاورة بالسيارة، فأُرسِل بيتر للتعرف على هؤلاء الرجال، وفي الليل دخل بعض رجال جوفي إلى المرآب، وعطلوا إحدى السيارات حتى يفقد سائقها السيطرة عليها وكادت تُكسَر رقبته. وهكذا أُحبطت مؤامرة أخرى!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤