القسم الحادي والسبعون
كان العالم يتعذب خلال تلك الفترة، فقد كان الناس يشترون الصحف عدة مرات كل يوم، وحينما كانت الجموع تحتشد أمام اللوحات الإعلانية، تنظر إلى الخرائط الكبيرة التي تحمل أعلامًا صغيرة، وتتساءل، هل سيصل الألمان إلى باريس؟ هل سيصلون إلى القناة الإنجليزية ويخرجون فرنسا من الحرب؟ ثم فجأة، وجه الأمريكيون ضربتهم الأولى، وصدوا الألمان إلى الخلف في شاتو تيري، ونهضت أمريكا بالكامل مطلقةً صيحة نصر جماعية!
قد تظن أن هذا كان وقتًا غير مناسب للتحريض على مناهضة الحرب، ولكن لم يكن أعضاء «رابطة مكافحة التجنيد الإجباري» يملكون ما يكفي من التمييز، الأمر الذي دفعهم إلى اختيار تلك اللحظة تحديدًا لنشر كتيب يصف تعذيب رافضي الخدمة العسكرية في السجون العسكرية ومعسكرات التدريب! كان بيتر أحد نشطاء هذه المنظمة منذ بدايتها، وساعد في كتابة عبارة حاسمة معينة في الكتيب كانت من اقتراح ماكجيفني. وصادرت الحكومة الفيدرالية الكتيبات، واعتقلت جميع أعضاء «رابطة مكافحة التجنيد الإجباري»، بما في ذلك سادي تود، وأدا روث الصغيرة، ودونالد جوردون! كان بيتر يشعر بالأسف حيال سادي تود، على الرغم من أنها سبته من قبل. ولكنه لم يستطع أن يشعر بالكثير من الأسف حيال أدا روث؛ لأنها كانت متعصبة للغاية، ومصرة على الوقوع في المشاكل. أما دونالد جوردون، فإذا لم يكن قد تعلم الدرس من تلك الضربة، فلا يلومن إلا نفسه.
كان بيتر عضوًا في هذه الرابطة المناهضة للتجنيد الإجباري، فتظاهر بأنه يختبئ، ومثَّل مسرحيةً صغيرةً على ابنة عم أدا روث، وهي امرأة إنجليزية أخفته في منزلها في الريف. شعر بيتر بعدم الراحة لربع الساعة عندما أُفرِجَ عن دونالد جوردون بكفالة؛ لأن الصبي من جماعة الأصدقاء أصر على أن العبارة الحاسمة التي أوقعتهم جميعًا في المشاكل كانت قد حُذِفت من المخطوطة قبل أن يسلمها إلى بيتر جادج ليأخذها إلى المطبعة. لكن بيتر أصر على أن دونالد كان مخطئًا، ويبدو أنه نجح في إقناع الآخرين، وبعد أن خرجوا جميعًا بكفالة، تجرأ على الخروج من مكان اختبائه، وحضر اجتماع احتجاج أو اثنين في منازل خاصة.
ثم بدأت مغامرة جديدة تُعَد في بعض جوانبها الأكثر رعبًا على الإطلاق. كانت المغامرة تتعلق بفتاة أخرى، وكانت البداية في منزل أدا روث حيث اجتمع عدد من المناهضين للحرب الأكثر تحفظًا لمناقشة مسألة جمع الأموال لدفع تكاليف الدفاع القانوني عنهم. وحضرت ميريام يانكوفيتش هذا الاجتماع، وكانت شاحبة الوجه بعدما خضعت لجراحة سرطان الثدي، ولكن هذا لم يؤثر بالسلب على إخلاصها للحُمْر قلبًا وعقلًا. أحضرت ميريام صديقةً معها لمساعدتها لأنها لم تكن قوية بما يكفي لتتمكن من السير، وكانت هذه الصديقة التي جعلت بيتر يبدأ مغامرته الجديدة.
كان اسمها روزي ستيرن، وكانت فتاة يهودية عاملة ضئيلة الحجم قوية البنية ذات عينين سوداوين جريئتين، وكتلة من الشعر الأسود اللامع، ووجنتين متوردتين وابتسامة مشرقة. كانت ملابسها تنم عن إدراكها لمدى جمالها وتقديرها له، لهذا السبب لم يُفاجأ بيتر عندما قالت ميريام، عند تقديمها له، أن روزي لا تنتمي إلى الحُمْر ولا تحبهم، ولكنها أتت لمساعدتها فقط ولرؤية ما يدور في اجتماعات المناهضين للحرب. ربما يمكن لبيتر أن يساعد في تحويلها إلى عضوة في جماعة الحُمْر! وكان بيتر سعيدًا بهذا حقًّا؛ لأنه أصبح الآن أكثر مللًا من تذمر المناهضين للحرب الآن بعدما صد أبناؤنا هجوم الألمان على مارن وسطروا أسماءهم على صفحات التاريخ السرمدية.
كانت روزي من نوع جديد لم يألفه بيتر، فتبعها، ولم تمُر فترةٌ طويلة قبل أن يدرك مسرورًا أنها مهتمة به. كان بيتر يعرف، ولا شك، أنه أفضل من كامل هذه المجموعة، ولكنه لم يعتد أن يقر أحد بهذه الحقيقة، وكعادته عندما تبتسم له امرأة، يرتفع مقياس ثقته بنفسه إلى أعلى النقطة الآمنة. كانت روزي واحدة من أولئك الأشخاص الذين يتعاملون مع العالم كما هو ويحصلون على بعض المرح منه؛ لذا، وبينما كان اجتماع المناهضين للحرب مستمرًّا، جلس بيتر معها في أحد الأركان وقص عليها بصوت خفيض مغامراته المضحكة مع بيريكليس بريام وفي معبد جيمجامبو. لم تستطع روزي كبت ضحكاتها، ولمعت عيناها السوداوان، وقبل أن تنتهي الأمسية، تلامست أيديهما عدة مرات. ثم عرض بيتر مرافقتها وميريام، ولا حاجة بنا إلى قول إنهما أوصلا ميريام إلى منزلها أولًا. كانت شوارع الأحياء السكنية خالية في هذه الساعة المتأخرة، الأمر الذي وفر لهما فرصة لعناق سريع، وعاد بيتر إلى منزله وهو يكاد يطير فرحًا.
كانت روزي تعمل في مصنع لصناديق الكرتون، وفي مساء اليوم التالي، اصطحبها بيتر لتناول العشاء، واستمرت مغازلاتهما المتشوقة. ولكن روزي أظهرت ميلًا للتراجع عن ذلك، وعندما ضغط عليها بيتر، أخبرته بالسبب. لم تكن لديها أي نية للارتباط بأحد الحُمْر، فقد ملت من سماع لغوهم الذي لا ينقطع؛ لذا لن ترتبط بأحدهم أبدًا. انظر إلى ميريام يانكوفيتش، كم أفسدت حياتها! كانت فتاة جميلة، وكانت متزوجة من رجل ثري، ولكنها أصبحت الآن مضطرة لأن تُقطَّع إرْبًا إرْبًا! وانظر إلى سادي تود، لقد جعلت من نفسها عبدة حتى أوشكت على الموت، وأدا روث بقصائدها التي تصيب من يسمعها بالملل. سخرت روزي منهم جميعًا، وأصابتهم بسهام ذكائها، ولا شك في أن بيتر كان يتفق مع كل ما قالته في داخله، ولكن كان على بيتر أن يتظاهر بالاختلاف معها، الأمر الذي أغضب روزي وأفسد متعتهما، وكادا يتشاجران.
في ظل هذه الظروف، كان من الصعب على بيتر عدم التلميح عن مشاعره الحقيقية. بعدما أنفق كامل أمواله على روزي والكثير من وقته ولم يحرز أي تقدم معها، قرر أن يقدم لها بعض التنازلات، فأخبرها بأنه سيتوقف عن محاولة ضمها إلى الحُمْر. عندئذ، مطت روزي شفتيها، وقالت: «هذا لطف كبير منك، يا سيد جادج! ولكن ماذا عن محاولتي أن أضمك إلى «البيض»؟» وأكملت حديثها بأن قالت إنها تريد رجلًا يستطيع كسب المال والاعتناء بها. أجابها بيتر أنه يكسب مبلغًا لا بأس به من المال. فسألته روزي كيف يكسب المال. لم يخبرها بيتر، ولكنه كان يكسب المال، وسيثبت لها ذلك عن طريق اصطحابها إلى المسرح كل ليلة.
وهكذا استمرت العلاقة بينهما، ليلة تلو الأخرى. أصبح بيتر أكثر هيامًا بجميلته ذات العينين السوداوين، وأصبحت هي أكثر دلالًا، وأكثر تململًا من ميوله المتطرفة. كان والد روزي قد جاء بها إلى أمريكا من كيشينيف منذ نعومة أظفارها، ولكنها كانت أمريكية حقيقية بنسبة ١٠٠٪، كما قالت له عن نفسها؛ وكان هؤلاء الصبية الذين يرتدون الملابس العسكرية ويكيلون الضربات للهونيين، هم الصبية المقدرين لها، وكانت تنتظر عودة أحدهم. ماذا كان خطب بيتر لكيلا يؤدي دوره؟ هل يتهرب من الخدمة العسكرية؟ لم تكن روزي تحترم الكسالى، ولم تكن ترغب في مرافقة رجل لا يمكنه الدفاع عن نفسه. في ذلك اليوم نفسه، كانت تقرأ في الصحيفة عن الفظائع التي ارتكبها الهونيون. كيف يمكن لرجل تجري في عروقه دماء حرة أن يتعاطف مع المناهضين للحرب والخونة؟ وإن لم يكن بيتر يتعاطف معهم، لماذا كان يتنقل برفقتهم ويمنحهم دعمه المعنوي؟ عندما أقدم بيتر على محاولة ضعيفة لذكر بعض حجج المناهضين للحرب، كان كل ما قالته روزي هو: «أوه، محض هراء! أنت أذكى كثيرًا من أن تخبرني بمثل هذه الأمور.» لا شك في أن بيتر كان يدرك أنه ذكي للغاية، وكان من الصعب منع روزي عن إدراك ذلك. لقد خسر فتاةً منذ فترة قصيرة بسبب علاقاته مع الحُمْر. هل يجب أن يخسر فتاة أخرى؟
ظلا على مدار بضعة أسابيع يتشاجران ويتعاركان. كانت روزي تسمح لبيتر بتقبيلها، وكان رأس بيتر يدور من فرط رغبته فيها. قرر أنها أروع فتاة عرفها في حياته، حتى نيل دولين لم تكن شيئًا مقارنةً بها. ولكن بعد ذلك، كانت تضغط على بيتر بسبب علاقته بالحُمْر، فكانت ترفضه، وتعزف عن رؤيته مرة أخرى. في نهاية المطاف، اعترف بيتر لها بأنه فَقَدَ تعاطفه مع الحُمْر، وأنها أقنعته، وأصبح يحتقرهم. فردت روزي بأنها سعيدة، وأنهما سيذهبان على الفور لرؤية ميريام يانكوفيتش، وسيخبرها بيتر بذلك، وسيحاول تحويلها هي أيضًا. وضع ذلك بيتر في مأزق، واضطر إلى أن يصر على أن تبقي روزي أمر تحوله سرًّا. لكن روزي غضبت، وزمت شفتيها وقالت إن التحول الذي يجب أن يبقى سرًّا لا يُعد تحولًا من الأساس، بل مجرد خدعة دنيئة، وإن بيتر جادج جبان، وقد مَلَّت منه! فانصرف بيتر المسكين مكسور القلب ومشوش الذهن.