القسم الخامس والسبعون
استمع الرجلان إلى قصة بيتر وعدلاها قليلًا، ثم استمعا لها مرة أخرى وأعلنا أنها أصبحت على ما يرام، وعاد بيتر إلى غرفته في الفندق وانتظر في قلق لحظة ظهوره. عندما اصطُحب إلى المحكمة كانت ركبتاه ترتجفان، ولكنه شعر في الوقت نفسه بحماسة كونه شخصًا مهمًا حقًّا، فقد كانوا قد زودوه بحراسةٍ شخصيةٍ من أربعة رجال أقوياء، كما رأى اثنين من «الثيران» لاحظهما في الممر خارج قاعة المحكمة، بالإضافة إلى ثيران آخرين كثيرين موزعين بين الحضور. كان المكان مكتظًّا بالمتعاطفين مع الحُمْر، الذين فُتِّشوا جميعهم قبل السماح لهم بالدخول، وكانوا يُراقَبون عن كثب طوال الوقت أثناء المحاكمة.
عندما صعد بيتر إلى منصة الشهود، شعر بما شعر به توم دوجان ودونالد جوردون في تلك الليلة عندما كان الوهج الأبيض لثلاثين أو أربعين سيارة موجه نحوهما. شعر بيتر بكراهية الحُمْر المركزة الصادرة من مائتين أو ثلاثمائة متفرج، وكانت قيود الغضب المكبوت تنكسر بين فينة وأخرى، فيصدر تذمر احتجاج، أو موجة من الضحك الساخر، ثم كان حاجب المحكمة يضرب سطح المنضدة بمطرقته الخشبية، وينهض القاضي بنصف انحناءة ويقول إنه إذا حدث ذلك مجددًا، فسيأمر بإخلاء قاعة المحكمة.
على مسافة غير بعيدة أمام بيتر، كان السبعة عشرة متهمًا جالسين إلى طاولة طويلة، وكانوا يبدون كفئران محاصَرة، وكانت كلٌ من الأربع والثلاثين عين فأر مثبتة على وجه بيتر، ولم تُشَح عنه ولو للحظة. نظر بيتر في ذلك الاتجاه مرة واحدة فقط، فأظهروا أسنانهم الشبيهة بأسنان الفئران، فأشاح بنظره سريعًا نحو اتجاه آخر. ولكنه رأى في ذلك الاتجاه أيضًا وجهًا أرَّقه، فهناك كانت تجلس السيدة جود، مرتديةً ملابسها الشيفونية البيضاء الناصعة، وعيناها الزرقاوان الجاحظتان مثبتتان على وجهه، وكان وجهها مفعمًا بالحزن والعتاب. كانت تبدو وكأنها تقول له: «سيد جادج! كيف جرؤت على ذلك؟ سيد جادج، هل هذا هو شعار السلام … العدل … الحقيقة … القانون؟» وأدرك بيتر متألمًا أنه قد عزل نفسه إلى الأبد عن جبل الأوليمب، وعن كرسي الشرفة ذي الوسائد الحريرية الناعمة! أشاح بنظره نحو المنصة التي كان يجلس عليها أعضاء هيئة المحلفين الاثنا عشر. ابتسمت له عجوزٌ ابتسامةً حنونة، ومنحه مزارعٌ شابٌّ غمزةً خفية، فأدرك بيتر أن له أصدقاء في ذلك الاتجاه، وهم، في نهاية المطاف، أصحاب السلطة الفعليون في هذه المحاكمة. كانت السيدة جود عاجزة مثل أي من «أعضاء اتحاد العمال الصناعيين العالمي» في حضرة هيئة المحكمة الموقَّرة هذه.
سرد بيتر قصته، ثم بدأ الاستجواب، ومَن أبرع من ديفيد أندروز، ذلك الرجل اللبق المرح الفتَّاك، في أداء هذه المهمة. لطالما كان بيتر يخاف من أندروز، فجفل في هذه اللحظة. لم يخبره أحد أنه سيواجه محنةً مثل هذه! لم يخبره أحد أنه سيُسمَح لأندروز بالتحقيق معه بشأن تفاصيل الجرائم التي قال إنه شهدها، وجميع الحوارات التي حدثت، ومن كان حاضرًا، وماذا قيل أيضًا، وسبب حضوره هذه الحوارات، وماذا فعل بعد ذلك، وماذا أكل على الإفطار ذاك الصباح. أمران فقط أنقذا بيتر، الأول، الاعتراضات المستمرة التي كان ستانارد يقدمها لمنح بيتر وقتًا كافيًا للتفكير، والثاني، الملجأ الذي قدمه له ستانارد مسبقًا. فقد قال له نائب المدعي العام: «يمكنك دائمًا أن تقول إنك لا تتذكر، ولا يمكن لأحد أن يعاقبك على نسيان شيء ما.» وهكذا، كان بيتر يذكر تفاصيل دقيقة من محادثة قال آلف جينيس خلالها إنه أحرق الحظيرة، ولكنه لا يتذكر إذا كان أحدٌ آخر قد سمع المحادثة، ولا يتذكر ماذا قيل غير ذلك، ولا يتذكر تاريخ المحادثة.
ثم جاءت ساعة استراحة الظهيرة المباركة التي وفَّرت فرصةً لبيتر للاستعداد مجددًا قبل استئناف أعمال المحاكمة في الساعة الثانية. تعرض للاستجواب مرة أخرى من قبل ستانارد الذي أغلق جميع الثغرات في شهادته، وعاد ليدعي عدم تذكر بعض الأمور مرة أخرى، الأمر الذي جنبه الوقوع في الفخاخ التي نصبها له أندروز. قيل له إنه «أدى بشكل جيد»، واصطُحِب مجددًا إلى فندق هوتيل دي سوتو مزهوًا بالنصر، وبقي هناك لمدة أسبوع بينما كان الدفاع يحاول دون جدوى الرد على شهادته. قرأ بيتر في الصحف الخطب الطويلة التي ألقاها المدعي العام ونائبه اللذان أشادا به بوصفه وطني يحمي بلاده من «أعدائها الداخليين»؛ كما قرأ إشارةً قصيرةً إلى «السباب» الذي قاله ديفيد أندروز، فقد وصفه بأنه «واشي» و«يهوذا الخائن». لم يكن بيتر يهتم بذلك بالطبع، فقد كان كل ذلك جزءًا من اللعبة، والسباب دلالة أكيدة على العجز.
ولكن ما كان من الصعب تقبله بهدوء كان شيئًا وصل إلى بيتر في اليوم نفسه؛ رسالة من السيدة جود! لم تكن موجهة له، ولكنه رأى هاميت وأحد «الثيران» يضحكان معًا، وسألهما عما يضحكان، فأخبراه أن السيدة جود كشفت أمر جوفي بطريقة ما، وأرسلت له رسالة مليئة بالإهانات، وأن جوفي استشاط غضبًا. سألهما بيتر عما ورد فيها، فأخبراه، وأحضراها له ليقرأها في وقت لاحق بعد إلحاح منه، واستشاط بيتر غضبًا هو الآخر. على ورقة خطابات فاخرة مع شعار رسمي عند قمتها، كتبت أم جبل الأوليمب بخط كبير ورقيق وأنيق رأيها في الرجال «الذين يعملون متخفين» وأولئك الذين يكلفونهم بتلك المهام:
«إنك تجلس كعنكبوت كبير تنسج شبكةً لصيد الرجال وتدميرهم. فتدمر ضحاياك ومستخدميك على حدٍ سواء. ذلك الصبي المسكين، بيتر جادج، الذي أرسلته إلى منزلي – لا يزال قلبي ينزف دمًا عندما أتذكره، وأتذكر العبء الذي ألقيتَه على كاهله! ما هو إلا ضحية بائسة ضعيفة العقل للجشَع، ويجب أن يُرسل إلى مستشفى للأرواح المشوَّهة، لقد أخذته ولقنته كلمات شريرة لينطق بها حتى تتمكن من زج مجموعة من المثاليين الحقيقيين في السجن.»
اكتفى بيتر بقراءة هذه الكلمات! ووضع الرسالة جانبًا، فهو لن يُشَرِّف مثل هذه الأشياء بقراءتها. أدرك أنه يجدر به إمعان التفكير في مشكلة السيدة جود مجددًا. فامرأة واحدة على شاكلتها، في مثل موقعها من السلطة، أخطر من جميع «أعضاء اتحاد العمال الصناعيين العالمي» السبعة عشر الذين يُحاكَمون. سأل بيتر عن الأمر، وعلم أن جوفي ذهب بالفعل لرؤية نيلس أكيرمان بشأنها، وأن السيد أكيرمان قد ذهب لمقابلة السيد جود، وأن السيد جود قد ذهب للقاء السيدة جود. كما نشرت جريدة «التايمز» مقالًا يتحدث عن «عش البلشفية» على جبل الأوليمب، وكان جميع أصدقاء السيدة جود يبتعدون عن حفلات الغداء التي تنظمها، وهكذا كانت تعاني بسبب وقاحتها مع بيتر جادج!
إنها «مستشفى للأرواح المشوهة» بلا شك! كان بيتر منزعجًا لدرجة أنه لم يسْتَعِد فرحته في الحياة حتى بعد أن وصله خبر أن هيئة المحلفين وجدت المدعى عليهم مذنبين في التصويت الأول. قال لماكجيفني إن ضغوط هذه المحاكمة أكثر مما تتحمله أعصابه، وإنهم يجب أن يعتنوا به، فأعدوا له سيارة نقلته إلى مكان سري في الريف ليتعافى.
ذهب هاميت معه، وكان هاميت بارعًا في استخدام السلاح، وكان بيتر يلازمه طوال الوقت، وكان يقضي المساء في الطابق الثاني من المزرعة كل يوم خشية أن يأخذ أحد «أعضاء اتحاد العمال الصناعيين العالمي» شهادة بيتر حول اعتيادهم على إطلاق النار على أعدائهم تحت جنح الظلام حرفيًّا. كان بيتر يعرف مدى كراهيتهم له، وقرأ في الجريدة أن القاضي استدعى المذنبين أمامه وأصدر حكمه عليهم، واضطروا إلى الاستماع إلى خطابٍ قاسٍ منه، نُشِر بالكامل في صحيفة «التايمز». كان القانون ينص على عقوبة تتراوح ما بين سنة واحدة وأربع عشرة سنة، وحكم القاضي على ستة عشر منهم بأربع عشرة سنة، وحكم على واحد بعشر سنوات، عملًا بمبدأ مزج العدل بالرأفة.
ثم في أحد الأيام، أرسل ماكجيفني سيارة، ونُقِل بيتر إلى مكتب جوفي الذي كشف عن الخطة الجديدة التي سيُكلف بها. كانوا قد اعتقلوا مجموعة أخرى من «أعضاء اتحاد العمال الصناعيين العالمي» في مدينة إلدورادو المجاورة، وكان بيتر مطلوبًا هناك لتكرار شهادته. فقد تصادف أنه كان يعرف أحد المتهمين، وسيكون هذا كافيًا للاستعانة بشهادته وقصصه الثمينة عن حرق الحظائر والقنابل الفسفورية. وسيتم الاعتناء به بنفس القدر من قِبَل مكتب المدعي العام لمقاطعة إلدورادو، وربما أكثر، سيرسل جوفي رسالة إلى صديقه ستيف إلمان، الذي كان يعمل متحرِّيًا لصالح «جمعية البيت والمدفأة»، وهي المؤسسة التجارية الأكبر في تلك المدينة.
أرغى بيتر وأزبد. كانت هذه النوعية من العمل صعبة وخطرة للغاية، فهي تضغط بشدة على أعصاب المرء وتجبره على الجلوس في غرفة الفندق طوال اليوم دون أن يفعل شيئًا سوى تدخين السجائر وتخيل «أعضاء اتحاد العمال الصناعيين العالمي» يلقون القنابل عليه. كما أنه عمل لن يدوم طويلًا، ويجب أن يكون أجره أكبر. أجاب جوفي بأنه لا داعي لأن يقلق بيتر حيال استمرار وظيفته، فإذا وافق على الإدلاء بهذه الشهادة، سيطوف البلاد من أقصاها إلى أقصاها في رحلة ممتعة، وسينعم بخيرات الحياة أينما ذهب، وستمجده الصحف باعتباره بطلًا.
ولكن بيتر ظل يرغي ويزبد. كان قد عرف من جريدة «تايمز» المدينة الأمريكية مدى أهيمته كشاهد، فجازف بطلب زيادة في الأجر من جوفي المخيف، وأصر عليه على الرغم من عبوس جوفي، وكان النتيجة أن جوفي قال، حسنًا، إذا وافق بيتر على القيام بالرحلة فسيحصل على خمسة وسبعين دولارًا في الأسبوع بالإضافة إلى النفقات، وسيضمن جوفي أن يحصل على هذا الأجر لمدة لا تقل عن ستة أشهر.