القسم السابع والسبعون
تعرض بيتر لتوبيخ شديد، وكُلِّف بالعمل في «وظيفة مكتبية» براتبه القديم الذي يُقَدَّر بعشرين دولارًا في الأسبوع. كانت مهامه تشمل التشاور مع العديد من «عملاء» جوفي ليخبرهم بكل ما يعرفه عن أعضاء حركة الحُمْر أو منظماتها. كما كان يستخدم معرفته المؤكدة بالشخصيات والمعتقدات والتحركات للمساعدة في تلفيق الشهادات، والمساعدة في نصب الفخاخ للمحرضين المتحمسين أكثر من اللازم. لم يعد بإمكانه التظاهر بأنه تابع للحُمْر، ولكن في بعض الأحيان كانت ثمة حالات يمكنه خلالها عمل تحريات من دون أن الكشف عن هويته؛ على سبيل المثال، عند الاشتباه في حصول أحد المحلفين على رشوة، أو التحقيق في صلاحية أعضاء اللجان.
توقف نشاط اتحاد العمال الصناعيين العالمي بالكامل في المدينة الأمريكية، لكن لم يتوقف نشاط الاشتراكيين على الرغم من المحاكمات والإدانات. وكان ثمة خطر جديد يلوح في الأفق؛ كان الجنود يعودون من الحرب، وكان كثيرون منهم ناقمين وعازمين على تقديم شكاوى تتعلق بأساليب التعامل معهم في الجيش، وبنقص الوظائف الجيدة في الوطن، وحتى بمعاهدة السلام التي كان الرئيس يجري محادثات تتعلق بشأنها في باريس. لقد قاتلوا من أجل تجهيز العالم للديمقراطية، ولكنهم، على حد قولهم، عادوا ليجدوا الوطن أصبح جاهزًا للاستغلاليين. كان هذا يُعد بلشفية صريحة، وفي أخطر صورها، فهؤلاء الرجال تعلموا كيفية استخدام البنادق، ولم يكن من المتوقع أن يصبحوا متحيزين للسلام فجأة.
كانت الحرب قد تسببت في نقص كبير في العمالة، وكانت بعض النقابات الأقوى قد استغلت الارتفاع العام في الأسعار ذريعة للمطالبة بأجور أعلى. الأمر الذي أثار، بالطبع، غضب أعضاء غرفة التجارة وجمعية التجار والصُّناع، ولكنهم رأوا في هؤلاء الجنود العائدين فرصةً لتحطيم الإضرابات وكسر شوكة المنظمات العمالية. فبدءوا في تنظيم صفوف الجنود لهذا الغرض، وساهمت غرفة التجارة في المدينة الأمريكية بخمسة وعشرين ألف دولار لتأثيث صالات أندية من أجل إقامتهم، وعندما أضرب سائقو الترام عن العمل، قادها جنود عائدون يرتدون الزي العسكري.
اعترض أحد المحاربين القدامى، يدعى سيدني، على هذا البرنامج. وكان مسئولًا عن نشر جريدة تُسمى «صديق المحاربين القدامى»، وبدأ في استخدام الجريدة للاحتجاج على أفعال رفاقه الذين جعلتهم تصرفاتهم في نظره «خونة». أرسل أمين سر جمعية التجار والصُّناع في طلبه وحاول إقناعه صراحةً بالعدول عما يفعل، ولكنه استمر في حملته، وترتب على ذلك تكليف مكتب جوفي بمهمة إسكاته. وعلى الرغم من أن بيتر لم يستطع أن يشارك في المهمة بصورة مباشرة، فقد كان هو من يقودها من خلف الكواليس. بدءوا في زرع جواسيس في مكتب سيدني، وزرعوا عددًا كبيرًا للغاية منهم حتى تحول الأمر إلى مزحة، فكانوا يمزحون قائلين إنهم يدوسون على أصابع أقدام بعضهم بعضًا. كان سيدني فقيرًا، ولم يكن يملك ما يكفي من المال لاستمرار نشر جريدته؛ لذا كان يقبل أي عمل تطوعي يصادفه. وأرسل إليه جوفي الكثير من المتطوعين — ليس أقل من سبعة من عملائه — أحدهم ينظم كتب سيدني، وآخر يهتم بمراسلاته، واثنان آخران يساعدان في جمع التبرعات من النقابات العمالية، وآخرون يمرون به كل يوم أو يومين لتقديم النصائح له. ومع ذلك، استمر سيدني في برنامجه في إدانة جمعية التجار والصُّنَّاع، وإدانة الحكومة لعدم توفيرها المزارع والوظائف لقدامى المحاربين.
كان أحد عملاء جوفي «السريين» — كان هذا هو المصطلح الفني لبيتر جادج وجو أنجيل — رجلًا يُدعى جوناس. كان جوناس يطلق على نفسه لقب «الفوضوي الفلسفي»، ويتظاهر بأنه الأكثر انتماءً للحُمْر في المدينة الأمريكية، وكان معتادًا على الوقوف في الاجتماعات الراديكالية واستجواب من يلقون الخطابات، ويحاول إغواءهم لتبرير العنف والتمرد و«إثارة الجماهير». وإذا ما نبذ أي منهم هذه الأفكار، كان جوناس يصمه بأنه «متردد»، أو «اشتراكي وهمي»، أو «عُمالي زائف». وكان آخرون بين الجمهور يصفقون، الأمر الذي كان يكشف لرجال جوفي هويات المتعاطفين الحقيقيين مع الحُمْر.
ظل بيتر يشتبه في أمر جوناس لفترة طويلة، وها هو الآن ذاهب للقائه في الغرفة ٤٢٧ في البيت الأمريكي حيث تعاونا معًا من أجل تلفيق اتهام لسيدني. كتب جوناس رسالة من المفترض أنها مُرسلة من «رفيق» ألماني حَوت أسماء بعض الجرائد في أوروبا التي يجدر بالمحرر أن يرسل إليها عينات من إصدارات مجلته. أُرسِل هذا الخطاب إلى سيدني، وفي صباح اليوم التالي دخل جوناس المكتب، وعرض سيدني الرسالة عليه، فأخبره جوناس أن هذه صحف عمالية، ولا شك في أن المحررين سيهتمون بمعرفة مشاعر الجنود الأمريكيين بعد الحرب. جلس سيدني لكتابة رسالة، ووقف جوناس بجواره وأملى عليه ما يجب أن يكتبه: «إلى أعدائي السابقين في الحرب، أرسل إليكم تحية من أخ، وأرحب بكم كإخوة في الرابطة التعاونية الجديدة التي سترى النور قريبًا»، وما إلى ذلك من الثرثرة المعتادة للمؤمنين بالدولية التي كان هؤلاء المحرضون يتشدقون بها ليلًا ونهارًا، والتي كانت تنساب من أقلامهم تلقائيًّا. أرسل سيدني هذه الخطابات، وعينات إصدارات المجلة، عبر البريد، وأخطر مكتب جوفي سلطات البريد التي تحفظت على الخطابات. ذهب أمين المكتبة، الذي كان أحد عملاء جوفي، إلى المحامي الفيدرالي وشهد تحت القسم أن سيدني كان يدبر مؤامرة مع العدو خلال الحرب، فأصدر مذكرة ضبط، ودوهِم مقر المجلة، وصودِرت قوائم الاشتراكات، وأُلقِيت جميع محتويات المقر في وسط الأرضية.
كانت تلك المهمة البسيطة تخص بيتر وحده، ولكن ادعى جوناس اللئيم أنها تخصه هو، وحاول أن يحرم بيتر من الفضل! لذا كان بيتر سعيدًا عندما تغاضت السلطات الفيدرالية عن القضية وقالت إنها عمل غير قانوني، وإنها لن تتدخل. ولكن، أُحيلت الأدلة إلى المدعي العام بورشارد الذي لم يتعامل بتدقيق مماثل، وداهم عملاؤه المجلة مرة أخرى، ودمروا مقرها مرة أخرى، وزجوا بالجندي العائد من الحرب في السجن. وحدد القاضي كفالته بخمسة عشر ألف دولار، ونشرت صحيفة «تايمز» المدينة الأمريكية القصة تحت عناوين مُبالَغ فيها ملأت صفحتها الأولى بالكامل؛ من قبيل «القبض على رئيس تحرير مجلة «صديق قدامى المحاربين» وهو يتآمر مع العدو»، مع صورة فوتوغرافية من رسالة خيانته، ونسخة من رسالة المتآمر الألماني الغامض الذي كان على علاقة به! أمضوا أكثر من عام يحاكمون ذلك الصحفي، وعلى الرغم من أنه خرج من السجن بكفالة، فقد تأكد جوفي من عدم حصوله على عمل في أي مكان في المدينة الأمريكية، ودُمِّرت جريدته وكادت عائلته تموت جوعًا.