القسم الثامن والسبعون

كان بيتر قد أمضى ستة أو ثمانية أشهر يعمل بإخلاص، وطوال تلك الفترة، حافظ على وعده لجوفي بعدم الارتباط بأي امرأة. لكن هذه الحياة لم تكن طبيعية لرجل، وكان بيتر يشعر بالوحدة، كانت أحلامه تزدحم بوجوه نيل دولين وروزي ستيرن، وحتى الصغيرة جيني تود. وذات يوم، زاره في أحلامه وجه آخر، وجه الآنسة فريسبي، الأنيقة التي رفضته لأنه كان منتميًا إلى الحُمْر. أدرك بيتر فجأة أنه لم يعد محسوبًا على الحُمْر! بل على النقيض تمامًا، كان بطلًا، ونُشِرت صورته في جريدة «تايمز» المدينة الأمريكية، ولا شك في أن الآنسة فريسبي رأتها. كانت الآنسة فريسبي فتاةً مهذبة، فتاةً مستقيمة، وكان لا بأس من أن يكون على صلةٍ بها!

وهكذا ذهب بيتر إلى صالون العناية بالأظافر، وبالفعل، كانت السيدة الضئيلة ذات الشعر الذهبي موجودة، وبالفعل، كانت قد قرأت كل شيء عنه، وكانت تحلم بأنها قد تلتقي به مجددًا ذات يوم، فدعاها بيتر لمشاهدة فيلم. وفي طريق العودة إلى المنزل أصبحا صديقين مقربين، وقبل أن يمر أسبوع واحد كانا يبدوان وكأنهما صديقان منذ الطفولة. عندما سأل بيتر الآنسة فريسبي عما إذا كان يمكنه تقبيلها، وافقت خجلة، ولكن بعد أن قبلها عدة مرات أوضحت له أنها امرأة تعول نفسها، امرأة وحيدة وعاجزة في هذا العالم، ولا يوجد من يتحدث نيابة عنها إلا نفسها، ويجب أن يعرف أنها امرأة محترمة، وأنها تريد منه أن يدرك ذلك قبل أن يقبلها مجددًا. وفكر بيتر في الأمر وقرر أنه قد اكتفى من العلاقات العابرة في هذه الحياة، وأنه أصبح مستعدًّا للاستقرار، وخلال لقائه التالي بالآنسة فريسبي أخبرها بذلك، وقبل أن تمر الأمسية كانا مخطوبين.

ثم ذهب بيتر للقاء جوفي، وجلس على حافة الكرسي المجاور لمكتب جوفي، وأمسك قبعته يديرها بين يديه، وكان وجهه مخضبًا بالحمرة، وبدأ يتلعثم بينما يُلقي اعترافه. كان يتوقع أن يتلقى سيلًا من السخرية، ولكنه شعر براحة لا مثيل لها عندما قال جوفي إنه إذا كان بيتر قد عثر بالفعل على فتاة جيدة وأراد الزواج منها، فإنه، أي جوفي، سيسانده. لا يوجد ما يماثل تأثير المرأة الصالحة على الرجل، وكان جوفي يفضل أن يكون عملاؤه متزوجين ويعيشون حياة مستقرة ومحترمة. فحينئذ، سيكونون أهلًا للثقة، وفي بعض الأحيان عندما يحتاج إلى جاسوسة، فستكون هناك شريكة جاهزة للمساعدة. ولو أن بيتر كان قد تزوج منذ فترة، لكان يمتلك حاليًّا مبلغًا كبيرًا من المال في المصرف.

تجرأ بيتر على الإشارة إلى أن عشرين دولارًا في الأسبوع لن تكون راتبًا كافيًا للزواج، في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة الحالية. رد جوفي بأن هذا صحيح، وبأنه سيرفع راتب بيتر إلى ثلاثين دولارًا على الفور، ولكن اشترط أن يتحدث إلى خطيبة بيتر أولًا، وأن يحكم بنفسه إذا ما كانت جديرة. كان بيتر سعيدًا، وحصلت الآنسة فريسبي على موعد لمقابلة خاصة وسرية مع رئيس بيتر في العمل. ولكن انحسرت سعادة بيتر بعد ذلك، فقد أدرك ما فعله جوفي. أخبر جوفي زوجة بيتر المستقبلية بكل شيء عن نقاط ضعف بيتر، وأن رئيس بيتر يعتمد عليها في رعاية زوجها وجعله يسير على الصراط المستقيم. لذا، بعد أسبوع واحد من دخول بيتر في روابط الزواج المقدسة، وعندما حدث خلال أسري بسيط بينه والسيدة جادج للمرة الأولى، اكتشف بيتر فجأةً لمن ستكون الكلمة العليا في تلك الأسرة. لقد تعرَّف على وضعه إلى الأبد، وتقبَّله، بل تحوَّل إلى ذلك الزوج الذي يصف شئونه الأسرية بقول إنه ينسجم مع زوجته بصورةٍ رائعة، وإنهما توصَّلا إلى اتفاق أن يكون له الحق في اتخاذ القرارات بشأن جميع الشئون الرئيسية، وكان لها هي الحق في اتخاذ القرارات بشأن جميع الشئون الثانوية، وحتى هذه اللحظة لم تظهر أي شئون رئيسية.

ولكن في واقع الأمر، كانت هذا أمرًا جيدًا للغاية؛ لأن جلاديس فريسبي جادج كانت مديرة ممتازة، وبدأت بكل نشاط تجهز عشًا لنفسها مثل أنثى قندس. لم تترك عملها كفنية عناية بالأظافر؛ لأنها ارتأت أنه لا بد وأن حركة الحُمْر قد دُمرت عن بكرة أبيها، ولن يمر وقت طويل قبل أن يجد بيتر نفسه بدون عمل. في مساء كل يوم، كانت تبحث عن منزل، وفي الظهيرة، ودون استشارة بيتر، كانت تختار الأثاث وورق الجدران، واشترت تقريبًا كامل مخزون متجر الخمسة والعشرة سنتات لتجهيز عش القنادس.

كانت جلاديس فريسبي جادج قارئة دءوب لمجلات الموضة، وكانت تثقف نفسها باستمرار بأحدث صيحاتها، كما أنها ثقفت نفسها بكتاب عن عن قواعد السلوك، وحفظته عن ظهر قلب بالكامل من الغلاف إلى الغلاف، ثم تولت مهمة تعليم بيتر. لِمَ يجب أن يكون «جيمي هيجينز» من «البيض» دائمًا؟ لِمَ لا يكتسب مفردات رجل مثقف، وفنون وأناقة الأثرياء؟ كانت جلاديس تعرف أن هذه التفاصيل هي التي تحدد راتبك على المدى الطويل، فكانت صباح كل أحد تُلبِسه قبعةً بنيةً جديدة وزوجًا جديدًا من القفازات البنية، وتأخذه إلى كنيسة الرحمة الإلهية، وكانا يستمعان إلى الخطبة الوطنية للقس دي ويلوبي ستوتربريدج، وكانت جلاديس تحني رأسها أثناء الصلاة، وكانت تنظر بزاوية عينها إلى زي السيدة في صف المقاعد المجاور. ثم كانا ينضمان إلى موكب الأحد، وكانت جلاديس تلفت انتباه بيتر إلى دلالات على ما تسميه «الأناقة». وفي المساء، كانا يذهبان للتمشي، وكانت تتوقف أمام نوافذ المتاجر الكبيرة، أو تأخذه إلى أروقة الفنادق حيث يمكن رؤية الأغنياء مجانًا. وعندما كان بيتر يجوع، كان يرغب في الذهاب إلى مطعم رخيص وملء جوفه بطعام حقيقي، ولكن كانت جلاديس، التي تمتلك شهية طائر، تصر على أن تأخذه إلى مطعم فندق هوتيل دي سوتو حيث يتناولان وجبة مكونة من كوب من الحساء وبعض الخبز والزبد؛ فقط لكي يشاهدا الأناقة ومراقبة كيفية تناول «الأنيقين» طعامهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤