القسم التاسع والسبعون
مثلما كانت جلاديس فريسبي جادج تعشق الأغنياء بحماسة، كانت تمقت الفقراء بالحماسة نفسها، وإذا ما أجبرتها على الاعتراف بذلك، ستقر بأنه يجب أن يكون هناك فقراء؛ فلا يمكن أن تظهر الأناقة، إلا على أساس وجود طبقة كبيرة من الأشخاص غير الأنيقين. لا بأس من وجود الفقراء ضمن طبقاتهم، ولكن ما كانت جلاديس تعارضه هي محاولاتهم للخروج من طبقاتهم، أو انتقاد من هم أفضل منهم. كانت ثمة كلمة تستخدمها لتلخيص كل ما تحتقره في العالم، وتلك الكلمة هي «عادي»، فكانت تستخدمها لوصف الأناس الذين ترفض مقابلتهم، وكانت تستخدمها لتصحيح أساليب تعامل بيتر وذوقه في القبعات. أن تكون «عاديًّا» يعني أن تكون ملعونًا، وعندما كانت جلاديس ترى أناسًا «عاديين» بصورة مؤكدة وظاهرة، يتظاهرون بأنهم أفضل من ذلك أو يضعوا لأنفسهم معايير خاصة بهم، كانت تعتبر ذلك إهانة لشخصها، وتتعامل معهم بعداء وغضب شديدين. وكأن كل منهم أصبح عدوًّا شخصيًّا لها، عدوًّا لشيء أعلى قيمة من شخصها، عدوًّا للشيء الذي تطمح لأن تصبح عليه، عدوًّا لمثالها الأعلى.
كان بيتر أيضًا على هذه الشاكلة في الماضي، ولكنه أصبح مرتاحًا الآن، كان لديه ميل لأن يصبح كسولًا وبسيطًا. لذا كان من الجيد أن تكون لديه جلاديس لتحفزه، وتبقيه في عمله. في البداية، لم تقابل جلاديس أي من الحُمْر وجهًا لوجه، كانت تعرفهم فقط من القصص التي كان يقصها عليها بيتر عندما يعود من عمله في نهاية اليوم. ولكن أصبحت كل مجموعة جديدة يطاردها في نظر جلاديس تجمعًا للأشرار المتجسدين، وبينما كانت تجلس تلمع أظافر سيدات المجتمع البدينات اللواتي الناعسات لدرجة عدم القدرة على تبادل أطراف الحديث، كان عقل جلاديس المشغول يعمل على وضع خطط لإحباط هؤلاء الأشرار.
كانت تراودها أفكار رائعة للغاية في بعض الأحيان. فقد كانت تمتلك حدس المرأة، وإلمامًا بعيوب البشر، وجميع التعقيدات الدقيقة في الحياة العاطفية؛ فكانت تقدم لبيتر برنامجًا للقضاء على بعض الشاب الراديكاليين، وكان متكاملًا وكأنها كانت تعرف هذا الرجل أو هذه المرأة طوال حياتها. كان بيتر ينقل أفكارها إلى ماكجيفني، الذي ينقلها بدوره إلى جوفي، وكانت النتيجة أنهم أدركوا مدى جودة مواهبها، وبعدما منحوا بيتر راتبًا سخيًّا بفضلها، تحررت من العمل في صالون العناية بالأظافر. أرسلها جوفي لتتعرف على الخدم في منزل ثري معين كان دائم التبرع لجمعية الانتخابات الأولية المباشرة وغيرها من المنظمات المتعاطفة مع الحُمْر، والذي كان يُعتقَد أن ثمة فضيحة في حياته الخاصة. أحرزت جلاديس نجاحًا مبهرًا في هذه المهمة لدرجة أن جوفي أسند إليها مهمة أكثر حساسية وهي زيارة السيدات الثريات، وإعلامهن بمدى خطورة الحُمْر، وإقناعهن بتحمل التكاليف المتزايدة باستمرار لمكتب جوفي.
كانت تلك الفترة مزدحمة في الحملة ضد الحُمْر. فقد مر ما يقرب من عامين على اندلاع الثورة البلشفية في روسيا، وكان ثمة انقسام في الحركة الاشتراكية يزداد تدريجيًّا، وكان عملاء شركة تراكشن تراست «السريون»، بالإضافة إلى عملاء مكتب المدعي العام والحكومة الفيدرالية، يعملون بجِد لتوسيع فجوة هذا الانقسام وتطوير الخلافات داخل المنظمة. كان يوجد بعض الاشتراكيين ممن يؤمنون باللجوء إلى السياسة، وكانوا على استعداد لتكريس حياتهم لعملية إنشاء حزب المملة والبطيئة. بينما كان هناك آخرون لا يملكون نفس درجة الصبر، وكانوا يبحثون عن طريق مختصرة، إضراب عام وإما انتفاضة جماعية للعمال من شأنها أن تضع حدًا لاستعباد الرأسمالية لهم. كانت لعبة السياسة بكاملها فاسدة، كما تقول هذه المجموعة؛ فيمكن للسياسي أن يعثر على طرق لخداع العمال في خلال دقيقة أكثر مما يمكن للعمال أن يحبطوا في خلال عام كامل. وكانوا يشيرون إلى الاشتراكيين الألمان، الذين خانوا الحركة الأممية. وكان هناك أشخاص يدعون أنهم اشتراكيون هنا في المدينة الأمريكية يريدون جذب الحركة إلى الفخ نفسه!
لم يُجر هذا النقاش بصورة مجردة؛ فقد كان جناحا الحركة يهاجم أحدهما الآخر بقوة. كان «السياسيون» يدينون «المستحيليين»، ويقولون إنهم «فوضويون»؛ وكان الطرف الآخر، الغاضب، يتهم أعداءه بأن الحكومة استأجرتهم. كان بيتر يزود ماكجيفني بفضائح كان العملاء «السريون» ينشرونها بين صفوف «اليساريين»، وبينما كانت الصراعات الطويلة دائرة داخل الحزب المحلي، كانت هذه التهم تخرج إلى النور. كان هربرت آشتون يذكرها بسخريته اللاذعة، أو كان «شورتي» جونتون يصيح بقولها خلال أحد نوبات غضبه؛ «يلقيها في وجوه خصومه»، على حد تعبيره.
كان «شورتي» جونتون عامل طباعة متسكعًا، محرضًا متجولًا كل همه هو بدء التحرك، ولم يكن يهتم بمن قد يكتشف الأمر. كان يقول: «العنف؟ لِكَم ألف سنة علينا أن نظل خاضعين لعنف الحكومات الرأسمالية، من دون أن نملك حق الرد؟» وكان يقول تارةً أخرى: «العنف؟ نعم، بالطبع يجب أن ننكر العنف، حتى نحصل على ما يكفي منه!» كان بيتر قد سمع نوبات غضب «شورتي» عن «المساومين» و«تجار السياسة»، وكان يرى أنه أحد أخطر الرجال في المدينة الأمريكية. ولكن في وقت لاحق، بعد حادثة جو أنجيل التي فتحت عينَي بيتر على حقيقة الأمور، قرر أن «شورتي» لا بد أن يكون عميلًا سريًّا أيضًا.
لم يتأكد الأمر لبيتر بشكل قاطع، ولكنه ظل يجمع الحقائق من هنا ومن هناك، وربطها معًا، ولم تمر فترة طويلة قبل أن تتحول شكوكه إلى يقين. انشق الاشتراكيون «اليساريون» عن الحزب، ودعوا إلى مؤتمر خاص بهم، وانقسم هذا المؤتمر على نفسه أيضًا إلى جزء يمثل الحزب الشيوعي، وجزء آخر يمثل الحزب الشيوعي العمالي. بينما كان المؤتمران منعقدين، جاء ماكجيفني إلى بيتر، وقال إن الحكومة الفيدرالية لديها عميل داخل لجنة سياسات الحزب الشيوعي، وأنهم يريدون كتابة بعض العبارات التي ستجعل من عضوية ذلك الحزب جريمة بحد ذاتها، ومن ثم، يمكن إرسال كل من يحمل بطاقة عضوية إلى السجن من دون الحاجة إلى أدلة أخرى. ولا بد أن تُكتَب هذه العبارات بلغة شيوعية أصيلة، وكانت معرفة بيتر المتخصصة في هذا السياق مطلوبة.
وهكذا كتب بيتر العبارات، وبعد يومين قرأ في الصحف تقريرًا عما حدث في المؤتمر. قدمت لجنة السياسات تقريرها، وقدَّم «شورتي» جونتون تقرير أقلية، وألقى خطابًا ناريًّا خلال المؤتمر، الأمر الذي أدى إلى تمرير تقرير الأقلية بفارق ضئيل. احتوى هذا تقرير الأقلية هذا على جميع العبارات التي كتبها بيتر. وبعد بضعة أشهر، بعدما أصبحت الحكومة جاهزة لرفع قضيتها، وبدأت الغارات على عموم الشيوعيين، اعتُقِل «شورتي» جونتون، ولكنه فر من السجن بعد بضعة أيام بطريقة درامية بعدما شق طريقه عبر سطح السجن!