القسم الثاني والثمانون

كان بيتر مشغولًا في تلك الأيام لدرجة أنه لم ينل أي قسط من النوم لعدة ليالٍ، ولم يكن يتوفر له إلا وقت قليل جدًّا لتناول الطعام. حصل على غرفة خاصة به، حيث كان يجلب السجناء لفحصهم، وكانت نصف دُزِّينة من الرجال تحت إمرته لأداء مهام «اليد الطولى». كانت مهمته هي استخراج اعترافات من هؤلاء السجناء من شأنها تبرير إرسالهم إلى السجن إذا كانوا مواطنين، أو ترحيلهم إذا كانوا أجانب. وبالطبع، كانت طرق التمييز بين المواطنين والأجانب نادرة، فكان عليك أن تجرب حظك مستندًا إلى اليقين بأن الجميع خطرون. منذ سنوات طوال، عندما كان بيتر يعمل لصالح بيريكليس بريام، كانوا قد قضوا عدة أشهر في بيت ضيافة، وكان بإمكانك معرفة متى ستكون شرائح اللحم ضمن وجبة العشاء؛ لأنك كنت تسمع الطباخ يدقها بمهراس البطاطس من أجل «ترقيقها»، وتعلم بيتر هذه العبارة، وأصبح يطبق العملية نفسها على الحُمْر الأجانب. عندما كانوا يدخلون الغرفة، كان رجال بيتر يهاجمونهم ويضربونهم ويكبلونهم، ثم ينهالون عليهم باللكمات. وإذا كانوا عنيدين ورفضوا «التعاون»، كان بيتر يتولى أمرهم بنفسه متذكرًا كيف كان جوفي يستطيع الحصول على ما يريد منه عبر لي رسغه وثني أصابعه إلى الخلف.

كان ذكاء بعض هؤلاء الرجال وبراعتهم مدهشًا. ربما كانوا مجرد عمال أجانب بائسين، ولكنهم كانوا يقضون كامل أوقات فراغهم في القراءة، وكنت تجد مجموعات كبيرة من الكتب في غرفهم عندما تداهمها؛ كانوا يعرفون ما تريد تحديدًا، وسيتمكنون من تفادي أسئلتك. كان بيتر يقول: «أنت فوضوي، أليس كذلك؟» فيأتي الرد كالآتي: «أنا لست فوضويًّا بالمعنى الذي تقصده للكلمة،» كما لو أن هناك معنيان لكلمة «فوضوي!» فكان بيتر يقول: «أنت تؤمن بالعنف، أليس كذلك؟» فكان الرجل يرد بوقاحة: «أنت من يؤمن بالعنف؛ انظر إلى وجهي الذي حطمته.» أو كان بيتر يقول: «لا تعجبك هذه الحكومة، أليس كذلك؟» فكان الرد كالآتي: «كانت تعجبني دومًا حتى بدأت معاملتها السيئة لي.» كانت كل أنواع التهرب على هذه الشاكلة، وكان ثمة كاتب يسجل كل شيء، وما لم يتمكن بيتر من الحصول على شيء يُكتَب في السجل على أنه اعتراف، لن يتمكن من ترحيل أولئك الحُمْر. فكان بيتر ينهال عليه ضربًا و«يرققه» حتى يجيب عما يُطلَب منه الإجابة عنه؛ أو ربما كان بيتر يلفق استجوابًا كما يريده أن يكون، وكان المحققون يمسكون بيد الرجل ويجعلونه يوقع عليه، أو كان بيتر يوقع عليه بنفسه.

كانت هذه الأساليب قاسية، ولكن لم تكن ثمة طريقة لتفادي استخدامها، فقد كان الحُمْر ماكرين للغاية. كانوا يقوضون الحكومة سرًّا، وهل من الممكن أن تستسلم الحكومة وتعترف بعجزها؟ وجاء الرد من الأمريكيين الحقيقيين بنسبة ١٠٠٪ يتردد صداه من كل غابة وتل معبد في البلاد، وكذلك من جميع مقرات الصحف. كان هذا الرد: «لا!» سيعثر الأمريكيون الحقيقيون بنسبة ١٠٠٪ على طريقة لحماية أنفسهم من سفسطة البلشفية الأوروبية، ووضع الأمريكيون الحقيقيون بنسبة ١٠٠٪ قاعدتهم الخاصة: «إذا لم يعجبهم هذا البلد، فليعودوا إلى حيث جاءوا.» ولكن بالطبع كانوا يعرفون في داخلهم أن أمريكا هي أفضل بلد في العالم، ولن يرغب أي منهم في العودة، فكان من الضروري إجبارهم على المغادرة.

كانت هذه مهمة بيتر، وكانت زوجته المخلصة تسانده، وتحرضه بعنادها الأنثوي. كانت جلاديس دائمًا ما تصف هؤلاء الناس بأنهم «بهائم»، وعندما شمت رائحتهم بعد تكديسهم معًا في هذه المكاتب لعدة أسابيع، أيقنت أنها كانت محقة، وأنهم يستحقون مصيرهم مهما كان بشعًا. كانت قد اكتشفت مؤامرة تفجير أخرى، بمساعدة بيتر، وكانت موجهة هذه المرة إلى النائب العام للبلاد، والذي كان يشرف على هذه المداهمات الجماعية. قُبِضَ على أربعة فوضويين إيطاليين في المدينة الأمريكية، واحتُجِزوا في غرف خاصة بعيدًا عن بقية السجناء، وعمل بيتر معهم لمدة شهرين لكي يحصل على اعتراف منهم. وعندما ظن بيتر أنه نجح، أفسد أحدهم جهوده عندما قفز من النافذة. كانت الغرفة في الطابق الرابع عشر، ومن ثم لم يعد هذا الفوضوي الإيطالي متاحًا كشاهد على نفسه. أثار الحادث غضب البلشفيين في جميع أنحاء البلاد، وأدى إلى حصول ديفيد أندروز على أمر زجري من المحكمة، وتسبب في الكثير من المتاعب لإدارة جوفي.

ومع ذلك استمر العمل؛ جرى تصنيف الحُمْر تدريجيًّا، وأُطلِقَ سراح من ثبتَ أنهم ليسوا حُمْرًا، ووُضِع آخرون على متن قطارات خاصة للحُمْر ونُقلوا إلى الموانئ القريبة. رحل بعضهم بوجوه واجمة، بينما رحل آخرون دون أن تتوقف ألسنتهم على السباب الغاضب، وكان آخرون ينوحون ويصرخون، فقد كان للكثير منهم عائلات، وتجرءوا على مطالبة الحكومة بأن تتعهد بترحيل عائلاتهم أيضًا، أو على الأقل الاعتناء بها! وبطبيعة الحال، أعلنت الحكومة أنها لن تتحمل هذه المسئولية. كان الحُمْر يملكون الكثير من المال الذي استخدموه في طباعة المنشورات التحريضية، فليستخدموه في الاعتناء بأنفسهم!

خلال هذه الغارات والتحقيقات العديدة، التقى بيتر بالطبع بالعديد من الحُمْر الذين كان يعرفهم في السابق كأصدقاء ومقربين. لم يكن بيتر يتخيل أن يلتقي بهم، بل كان يرتعد لمجرد مرور تلك الفكرة بخاطره، ولكنه أصبح يستمتع بها في الحقيقة. لقد تحرر تمامًا من خوفه منهم، ذلك الخوف الذي كان سابقًا يُفسِد شهيته ويقض نومه. تعلم أن الحُمْر كائنات مسكينة لا تُقاوِم، فهم لا يملكون أسلحة، والكثير منهم لا يملك عضلات حتى؛ لم يكونوا يملكون شيئًا في الواقع إلا الكلام. وكان بيتر يدرك أن قوة المجتمع المنظم تسانده، الشرطة والمحاكم والسجون، وإذا لزم الأمر، الجيش ببنادقه الآلية وطائراته وغازه السام. لم يكن ضرب هؤلاء الناس ودهس أصابع أقدامهم والبصق في عيونهم آمنًا فحسب، بل كان من الآمن أيضًا تلفيق أي اتهام لهم، فالصحف ستدعمك دائمًا، والجمهور سيصدق بالطبع كل ما يقرؤه في الصحف.

لم يعد بيتر يخشى الحُمْر! بل قرر أنه لم يعد يخشى حتى ماك، أكثر الحُمْر خطورة على الإطلاق. كان ماك سيقضي في السجن عشرين عامًا، وعلى الرغم من أن الحكم في قضيته كان قد استُئنِف، رفضت المحكمة وقف تنفيذ الحكم أو حتى السماح له بالخروج بكفالة. كانت روح بيتر قد مرت بما تمر به روح ماك في السجن، وأدرك أن حتى هذه الروح الفخورة والقاسية ستنكسر. كتب ماك رسالة من السجن موجهة إلى أحد رفاقه الحُمْر في المدينة الأمريكية، واعترضت سلطات البريد الرسالة، وعرضها جوفي على بيتر. كتب ماك متوسلًا: «راسلنا! بحق الرب، راسلنا! إن أكثر ما يثير الرعب في السجن هو أنك منسي. دعنا نعرف على الأقل أن هناك من يفكر فينا!»

أدرك بيتر أنه الفائز، وأنه صاحب «اليد العليا». وعندما التقى بهؤلاء الحُمْر الذين كان فيما مضى يخاف منهم، كان يستمتع بجعلهم يشعرون بطغيان سلطته، وأحيانًا بطغيان قبضته. كان من الممتع رؤية أساليب تعاملهم المختلفة معه. فكان بعضهم يحاول التوسل إليه، وتذكيره بصداقتهم القديمة، وكان بعضهم يتذمر ويشكو له، وكان البعض يحاولون التحدث معه بعقلانية، والتأثير على ضميره. ولكن كان أغلبهم يتعاملون معه بتعالٍ، وكانوا يحدقون في وجهه بكراهية، أو يرسمون الاحتقار على وجوههم. فكان بيتر يأمر «ثيرانه» ببدء العمل على تحسين أخلاقهم، وكان لي إبهام اليد ولي المعصم يؤدي المطلوب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤