القسم الثالث والثمانون

كانت ميريام يانكوفيتش من أوائل الحُمْر الذين التقاهم. كانت ميريام عضوة في الحزب الشيوعي، وكانت من مواليد روسيا، وكان هذا كافيًا في حالتها. كان بيتر يعرف، بالطبع، أن ميريام هي من سلطت روزي ستيرن عليه وأدت إلى كشف أمره. ولكنه لم يستطع أن يمنع نفسه عن التأثر بمظهرها. كانت تبدو متعبة ومسنة، وكانت تعاني من السعال، وكانت عيناها جامحتين ومجنونتين. كان بيتر يتذكر أنها كانت فخورة وسريعة الغضب، ولكن ذهب كامل فخرها، فقد خرت راكعة على ركبتيها أمامه، وتشبثت بمعطفه باكية بشكل هستيري. تبين أنها تعول أمها وأشقاءها الخمسة الصغار من راتبها، وأتت مصروفات المستشفى على كل ما كانت تملك من مال، وإذا رُحِّلت إلى روسيا، ماذا سيحدث لأحبائها؟

سألها بيتر عما يمكنه أن يفعل؟ لقد انتهكت القانون، وهناك بطاقة عضوية باسمها في الحزب الشيوعي، كما أقرت بأنها وُلِدت في الخارج. حاول أن يبتعد عنها، لكنها تشبثت به، وواصلت البكاء والتوسل. كانت تريد على الأقل أن تحصل على فرصة للتحدث إلى والدتها العجوز لتخبرها بما يجب عليها فعله، وإلى أين تذهب لتحصل على المساعدة، وكيف يمكنها التواصل مع ميريام في المستقبل. كانوا يبعدونها عن وطنها دون السماح لها بالتحدث إلى أحبائها، حتى من دون فرصة لإحضار ملابسها!

كان بيتر، كما نعلم، رقيق القلب تجاه النساء دائمًا؛ لذا شعر بالحرج في هذه اللحظة. فيما يتعلق بالتعامل مع هؤلاء البهائم، كان ينفذ أوامر رؤسائه، ولم يكن يملك القدرة على منح أي امتيازات لأي شخص، وظل يخبر ميريام بذلك مرارًا وتكرارًا، ولكنها لم تستمع لما يقول، وكانت تقول: «أرجوك، يا بيتر، أرجوك! بحق الرب، يا بيتر! أنت تذكر أنك كنت تحبني يومًا ما، يا بيتر … أنت من أخبرني بذلك …»

نعم، كان ذلك صحيحًا، ولكنه لم يصب في مصلحة بيتر. فقد كانت ميريام مهتمة بماك؛ ماك، ذلك الشيطان الأخطر على الإطلاق، والذي جعل بيتر يعيش ساعات طوال في توتر! كانت قد أزاحت بيتر جانبًا، ولم تكن مستعدة حتى للاستماع إلى ما يريد قوله، وها هي الآن تحاول استغلال ذلك الحب الذي رفضته!

أمسكت ميريام بيده، ولم يستطع أن يخلصها من بين يديها دون اللجوء للعنف، وصرخت قائلة: «إذا كنت شعرت في حياتك بلوعة حب امرأة، فلن تستطيع رفض مثل هذا المعروف، هذا المعروف الصغير! أرجوك، يا بيتر، لأجل الأوقات الخوالي!»

جفل بيتر فجأة، وكذلك فعلت ميريام. فقد صدر صوت من ناحية الباب يقول: «هذه إذن واحدة من صديقاتك، أليس كذلك؟» كانت جلاديس تقف عند الباب تحدق في وجهه وقد تصلب جسدها من فرط الغضب، ويداها الصغيرتان مضمومتان في قوة، وقالت: «هذه إذن واحدة من حبيباتك من الحُمْر، واحدة من نسائك الأمميات؟» ثم ضربت الأرض بقدمها، وقالت: «قفي، أيتها الفاجرة! قفي، أيتها العاهرة!» وبينما كانت ميريام لا تزال راكعة، وقد سمرتها الدهشة، هجمت عليها جلاديس، وأنشبت يديها في شعرها الأسود الثقيل وجذبته، فسقطت ميريام على الأرض. صرخت جلاديس: «سأعلمكِ درسًا، أيتها المتحررة! سأعلمكِ كيف تقيمين علاقة غرامية مع زوجي!» وظلت تجر ميريام في أنحاء الغرفة من شعرها الأسود، وركلتها وخدشت بشرتها، حتى اضطر عدد من الثيران للتدخل في نهاية المطاف لإنقاذ حياة الفتاة.

في الواقع، كانت جلاديس قد أُخبِرت عن الماضي المخزي لبيتر قبل أن تتزوجه؛ وكان جوفي هو من أخبرها، وأَخبرت بيتر أن جوفي أخبرها، وذكَّرت بيتر بذلك مرارًا وتكرارًا. ولكن أدخلتها رؤية واحدة من هؤلاء «النساء الأمميات» في حالة من الهياج، ومر أسبوع كامل قبل أن يعود السلام إلى عائلة جادج. وخلال تلك الفترة، واجه بيتر المسكين تقلبات عاطفية عاصفة، سواء في المنزل أو في المكتب. كانوا يجهزون قطار الحُمْر الأول، وشعر بيتر وكأن جميع الحُمْر الأجانب الذين عرفهم يحاصرونه محاولين الوصول إليه وتعذيب روحه وضميره. وُضِعَ ابن عم سادي تود، الذي وُلِدَ في إنجلترا، على متن هذا القطار الأول، وكذلك الحطاب الفنلندي الذي تعرف عليه بيتر في اتحاد العمال الصناعيين العالمي، وعامل مصنع السيجار البوهيمي الذي أكل بيتر في منزله عدة مرات، وأخيرًا مايكل دوبين، الصبي اليهودي الذي قضى بيتر معه خمسة عشر يومًا في السجن، والذي كان أحد ضحايا الجلد بالسوط الأسود.

لم يتوقف مايكل عن النواح، فقد كان يعول زوجةً وثلاثة أطفال، وادعى أن «الثيران» سرقوا كل مدخراته عندما داهموا منزله، وكانت مائتي أو ثلاثمائة دولار. وبالطبع، أصر بيتر على أنه لا يستطيع فعل شيء، فقد كان دوبين أحمر وأجنبيًّا، وعليه أن يرحل. عندما كانوا يضعونهم على متن القطار، كانت زوجة دوبين وخمسون امرأة أخرى يصرخن ويشبكن أيديهن وحاولن اختراق صفوف الحراس للوصول إلى أحبائهن. اضطرت الشرطة إلى ضربهن في بطونهن بالهراوات لمنعهن من فعل ذلك، وعلى الرغم من كل هذه الضربات، نجحت السيدة دوبين المحمومة في اختراق صف الحراس، وألقت نفسها تحت عجلات القطار، وتمكنوا من سحبها في آخر لحظة لينقذوا حياتها. لا شك في أن مشاهد مثل تلك لها تأثير سيء على الرأي العام؛ لذا اتصل جوفي بمحرري جميع الصحف، وحصل على موافقتهم جميعًا بعدم نشر أي تفاصيل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤