القسم الرابع والثمانون

كانت قطارات الحُمْر في جميع أنحاء البلاد تتحرك شرقًا محملةً ﺑ «أعضاء اتحاد العمال الصناعيين العالمي» والشيوعيين، والمناهضين للحرب والفوضويين، ومئات الأنواع الأخرى من البلشفيين. كانت القطارات محملة بهم بكامل سعتها، وبدأت رحلتها إلى روسيا؛ كان يُطلَق عليها اسم «سفينة الحُمْر»، وأثار خطباء الشارع الشيوعيون ضجةً هائلة، وقارن أحد رجال الدين الشيوعيين «سفينة الحُمْر» بسفينة مايفلاور! كما كان هناك مسئول منتمٍ للحُمْر في واشنطن، أثار ضجةً وألغى مجموعةً كاملةً من أوامر الترحيل، بما في ذلك بعض القضايا التي كان يتابعها بيتر. وكان هذا، بطبيعة الحال، مزعجًا لبيتر وزوجته؛ وفوق ذلك وقع حادث آخر كان أكثر إذلالًا.

كان هناك اجتماع جماهيري «للمتعاطفين مع الحُمْر» عُقِدَ في المدينة الأمريكية للاحتجاج على عمليات الترحيل. قال جوفي إنهم على الأرجح سيداهمون الاجتماع، ويجب أن يذهب بيتر معهم حتى يتمكن من تحديد الشيوعيين للثيران. كانت العملية تجري تحت إشراف محقق شرطة يدعى جاريتي، وكان رئيس ما يُطلَق عليه «فرقة القنابل»، ولكن لم يكن هذا الرجل يعرف شيئًا، وكان معتادًا على اللجوء إلى بيتر للحصول على النصيحة. ولكنه كان يحمل المسئولية الكاملة عن هذا الاجتماع، وطلب من بيتر أن يذهب إلى المنصة معه، فذهب بيتر. كان هناك حضور ضخم، وكان كل غضب الحُمْر المكبوت منذ عدة أشهر ينفجر في صورة عاصفة من الانفعالات. كان ثمة خطباء، رجال متأنقون ويبدون محترمين، ولم يكن من الممكن التفرقة بينهم وبين حكام البلاد الأصليين، وكانوا يتقدمون على المنصة ويقولون جملًا تُصَنَّف في أعلى درجات الخيانة، ويدينون الحكومة، ويدينون الحصار المفروض على روسيا، ويمدحون الحكومة البلشفية في روسيا، ويعلنون أن من ذهبوا إلى هناك على «السفينة السوفييتية» هم المحظوظون؛ لأنهم كانوا ينجون من أرض الطغيان إلى أرض الحرية. كل بضع جمل، كان الخطيب يُجبَر على التوقف بسبب عاصفة من التصفيق تندلع بين الحضور.

وماذا كان بيد محقق شرطة أيرلندي كاثوليكي مسكين أن يفعل أمام عرض كهذا؟ كان أحد الخطباء يقف معلنًا: «عندما تصبح حكومة من أي نوع مدمرةً لهذه الغايات، يحق للشعب تغييرها أو إبطالها، وإنشاء حكومة جديدة تُرسي أسسها على هذه المبادئ، وتنظم سلطاتها بالشكل الذي يراه الشعب أكثر ملائمةً لتحقيق سلامته وسعادته.» التفت جاريتي إلى بيتر، وقال له ووجهه الأيرلندي الطيب ممتقع من الذعر: «ما رأيك في ذلك؟»

رأى بيتر أن هذا يكفي. كان بيتر يعلم أن الآلاف من الرجال في جميع أنحاء أمريكا أُرسِلوا إلى السجن لقول أشياء أقل خطورة من ذلك. كان بيتر قد قرأ الكثير من كتيبات التعليمات الصادرة من مكتب النائب العام للولايات المتحدة، وكان يعلم بصورة رسمية أن هذه الكلمات تحديدًا هي التي لا يُسمَح لك بأي حال من الأحوال أن تتفوه بها، أو أن تكتب عنها، أو حتى أن تراود تفكيرك. قال بيتر لجاريتي: «لقد تمادى هذا الرجل بما يكفي. يجب أن تعتقله.» تحدث جاريتي إلى رجاله الذين اعتلوا المنصة، وأوقفوا الخطيب ووضعوه وجميع زملائه الخطباء رهن الاعتقال، وأمروا الحضور بالخروج من المبنى. كان هناك مائتا رجل شرطة ومحقق تحت إمرة جاريتي، فشكلوا صفًا حاملين هراواتهم، وساقوا الحشد أمامهم، وألقوا بالخطباء في عربة دورية. عاد بيتر بعد ذلك إلى مكتب جوفي، وأخبره بما فعل، واستُقبِل بتصرف ذكَّره بتلك المرة التي واجهه فيها جوفي برسالة نيل دولين! صاح جوفي: «هل تعلم من يكون ذلك الرجل الذي اعتقلته؟ إنه شقيق أحد أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي! وماذا تعتقد أنه كان يقول؟ كانت تلك جملة مقتبسة من وثيقة إعلان الاستقلال!»

لم يستطع بيتر أن «يستوعب»؛ كان بيتر ذاهلًا تمامًا. هل يحق لرجل أن يخالف القانون لمجرد أنه شقيق أحد أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي؟ وما الفارق الذي يحدثه كون هذه الكلمات مقتبسة من إعلان الاستقلال إذا كانت تثير الفتن، وإذا لم يكن من المسموح قولها؟ أدى هذا الحادث إلى تلقي جوفي وسلطات الشرطة في المدينة الكثير من التوبيخ، حتى إن جوفي جمع جميع رجاله وألقى عليهم محاضرةً شرح لهم فيها حدود الأنشطة المناهضة للحُمْر، ومن هم الأشخاص الذين لا يمكن اعتقالهم، وما الذي لا يمكن منع الناس عن قوله. على سبيل المثال، لا يمكن اعتقال رجل لاقتباسه كلمات من الكتاب المقدس.

اندفع أحد الرجال قائلًا: «ولكن، يا إلهي، يا جوفي. هل يجب علينا جميعًا أن نحفظ الكتاب المقدس عن ظهر قلب؟»

انفجر الجميع ضاحكين، فقال جوفي مُقِرًّا: «لا. ولكن على الأقل تعامل بحذر، ولا تعتقل أي شخص يقول أي شيء يبدو كما لو أنه مقتبس من الكتاب المقدس.»

تدخل رجل آخر كان قسًا في السابق: «اللعنة! هذا سيكبل أيدينا أكثر من الحكم بالسجن! فلتستمع لما يوجد في الكتاب المقدس!»

وبدأ في اقتباس بعض الجمل، وأدرك بيتر أنه لم يسمع أي حوار بلشفي أكثر فظاعة مما سمع الآن. جعل ذلك المرء يدرك أكثر من أي وقت مضى مدى تعقيد مشكلة الحُمْر؛ فقد أصر جوفي، بغض النظر عن كل شيء، أن كل كلمة من الكتاب المقدس محصنة، وقال: «في وينيبيج، وجهوا لرجل دين تهمةً بسبب اقتباسه لمقطعين من سفر إشعياء، لكنهم لم يتمكنوا من مواجهة العواقب، وكان عليهم أن يطلقوا سراح الرجل.» وينطبق الأمر نفسه على وثيقة إعلان الاستقلال؛ يمكن لأي شخص أن يقتبس منها، بغض النظر عن مدى تحريض الكلمات. وينطبق الأمر نفسه أيضًا على الدستور، حتى وإن كان الجزء المسمى بوثيقة الحقوق ينص على أن كل شخص في أمريكا من حقه أن يفعل جميع الأمور التي كان مكتب جوفي يزج بالناس في السجن بسبب فعلها!

بدت هذه الفكرة جنونية تمامًا، ولكن جوفي وضحها لرجاله على أنها مسألة سياسية بحتة. وإذا تمادوا، فسيخرج هؤلاء من السجون ويستميلون المصوتين، وربما يحكمون البلاد رغمًا عنهم، حينئذ، أين سيذهبون؟ لم يكن بيتر قد أولى السياسة أي اهتمام في السابق، لكنه وجلاديس أدركا بعد هذه المحاضرة أنه يجدر بهما أن يوسعا من منظورهما. لم يكن زج الشيوعيين في السجن وكسر جماجمهم كافيًا، فكان يجب عليك أن تحافظ على تعاطف الجمهور مع ما تفعل، وأن تجعل الجمهور يستوعب ضرورته، وأن تستخدم ما يسمى «الدعاية»، لتُبقي الجمهور على دراية بمدى بشاعة هؤلاء البهائم، والطبيعة اليائسة لغاياتهم.

كان الرجل الذي أدرك هذه الحقيقة بوضوح هو النائب العام للبلاد، وأشار جوفي في محاضرته إلى الطبيعة المزدوجة لأنشطته. لم يكن النائب العام يعمل على تفكيك الحزب الشيوعي وحزب العمل الشيوعي وإرسال أعضائهما إلى السجن فحسب، بل كان يستخدم أموال إدارته لإرسال تيار لا نهائي من الدعاية هدفه إبقاء البلاد في حالة خوف دائم من مؤامرات الحُمْر. لقد كلف رجالًا في المدينة الأمريكية بالعمل على تحليل البيانات التي جمعها جوفي، كما أنه سيُلقي خطابًا كل أسبوع أو أسبوعين في مكان ما، أو سيصدر بيانًا للصحف يتحدث عن مؤامرات تفجير جديدة ومؤامرات جديدة للإطاحة بالحكومة. وكم كان بارعًا في ذلك! كان يحمل معه صورًا لأقبح الحُمْر، صورًا التُقِطت بعد أن سُجنوا لأسابيع بدون حلاقة لحاهم، وبعد تعذيبهم لتعكير مزاجهم، وستُطبع هذه الصور على أوراق تحت عنوان: «رجال مثل هؤلاء قد يحكمون بلادك». ثم ستُرسَل هذه الأوراق إلى عشرة آلاف جريدة ريفية في جميع أنحاء البلاد، وستنشرها تسعة آلاف وتسعمائة جريدة، وسيرغب تسعة وتسعون مليون أمريكي في قتل الشيوعيين في صباح اليوم التالي. كانت هذه الخطة ناجحة لدرجة أن النائب العام كان يتوقع أن تساعده على الترشح للرئاسة، وكانت جميع وكالات قسمه تعمل لتحقيق تلك الغاية.

كانت جميع وكالات الشركات الكبرى الأخرى في جميع أنحاء البلاد تطبق العملية نفسها. نشرت «رابطة تطوير أمريكا» في المدينة الأمريكية إعلانات على صفحات كاملة في جريدة «تايمز»، وفعلت «جمعية البيت والموقد» في إلدورادو الأمر نفسه في جريدة «تايمز» إلدورادو، وفعلت «فرقة الدفاع الوطني» الأمر نفسه في جريدة «بانر» فلاجلاند. كانوا يحققون في سجلات جميع المرشحين السياسيين، وإذا أظهر أي منهم أدنى ظل من اللون الوردي، كان مكتب جوفي يبدأ في التنقيب في سجلاته والتوصل إلى فضائح عنه، ثم يمول رجال الأعمال صندوق حملة كبير، ومن ثم يحل هؤلاء المرشحين في قاع استطلاعات الرأي. كانت هذه هي طريقة عملهم، وكان يجب على جميع عملاء جوفي أن يضعوا في اعتبارهم مدى أهمية هذه العملية، ويجب ألا يُقدِموا على أي فعل من شأنه أن يعرقل هذه الحملة السياسية، تلك الدعاية التي تصب في صالح القانون والنظام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤