القسم الخامس والثمانون

خرج بيتر من هذا الاجتماع رجلًا جادًّا، وأصبح يُدرِك للمرة الأولى مسئولياته باعتباره ناخبًا، وراعيًا للناخبين الآخرين. وافق بيتر على رأي جلاديس بأن منظوره كان محدودًا للغاية؛ فقد كان تصوُّره لواجباته باعتباره عميلًا سريًّا لا يزال التصوُّر الذي يعود إلى ما قبل الحرب. كان عليه أن يدرك أن العالم قد تغير، ففي هذا العالم الجديد الذي أصبح جاهزًا للديمقراطية، كان العميل السري هو الحاكم الحقيقي للمجتمع، والمدبر الحقيقي لشئون البلاد، وإن صح القول، الوصي على الحضارة. يجب على بيتر وزوجته أن يتقبَّلا هذا الدَّور الجديد وأن يُهيِّئا أنفسهما له. كما يجب عليهما ألا يتأثرا بالاعتبارات الشخصية، ولكن يجب أن يُقِرَّا في الوقت نفسه بحقيقة أن هذا الدور الأكبر سيحمل أفضلية أكبر لهما؛ سيمكنهما من التقدم في العالم، ولقاء أفضل الناس. على مدار خمس أو ست سنوات من شبابها، كانت جلاديس تجلس لتلمع أظافر النساء المتأنقات وتداعب أيديهن البيضاء، وكانت تستعر دومًا نار في صدرها محفزةً إياها لأن تنتمي ذات يوم إلى عالم الأناقة هذا، وستلتقي بهؤلاء النساء ندًّا لهن، وليس مجرَّد عاملة لديهن، ولن تمسك بأيديهن فقط، بل سيمسكن هن أيضًا بيدها.

ها هي ذي قد حانت الفرصة. دخلت في مناقشة قصيرة مع جوفي، وقال جوفي إنها ستكون فكرة جيدة، وسيتحدث إلى بيلي ناش، الأمين العام ﻟ «رابطة تطوير أمريكا»، وقد فعل، وفي الأسبوع التالي أعلنت جريدة «تايمز» المدينة الأمريكية أن صف دراسة الكتاب المقدس للرجال في كنيسة بيت لحم سيعقد اجتماعًا مهمًّا. وسيدير الاجتماع عميل حكومي «سري» كان منتميًا إلى الحُمْر سابقًا ظل سنواتٍ عديدةً أحد أخطر المحرضين، ولكنه أدرك خطأه، وكفَّر عنه عبر تقديم خدماته للحكومة خلال المحاكمات الأخيرة لأعضاء اتحاد العمال الصناعيين العالمي.

لم تكن كنيسة بيت لحم تعني الكثير، فقد كانت طائفة غامضة مثل الرولرز المقدسة؛ ولكن كانت جلاديس حكيمة، وأصرت على أنه لا يجدر بالمرء أن يحاول الصعود إلى قمة الجبل في خطوة واحدة. ويجب على بيتر أن «يجرب الأمر على شيء أقل أهمية» أولًا، وإذا فشل، فلن تكون الخسارة كبيرة.

ولكن عملت جلاديس بجد لإنجاح هذه المحاضرة كما لو كانوا يدخلون إلى المجتمع الحقيقي. فأمضت عدة أيام في تجهيز زيها وزي بيتر، وأمضت يومًا كاملًا في وضع مساحيق تجميلها، وقبل أن يخرجا، أمضت ساعةً كاملة على الأقل في وضع اللمسات الأخيرة على نفسها أمام المرآة، والتأكد من كمال جميع تفاصيل بيتر. عندما قدمها السيد ناش شخصيًّا إلى القس زيبديا موجينز، وعندما خرج هذا الرسول من القدوم الثاني إلى المنصة وقدَّم زوجَها للحضور الكبير من الطبقة العاملة، كانت جلاديس ترتجف من فرط السعادة لدرجة أن الأمر تحول إلى ألم أكثر من كونه متعة.

لم يكن إلقاء بيتر للمحاضرة مثاليًّا بالطبع. فقد نسي ما عليه قوله في بعض الأحيان، وتلعثم وتأتأ، ولكنه تذكَّر نصيحة جلاديس عندما قالت له إنه إذا علق، فليبتسم ويقول إنه لم يتحدث أمام جمهور من قبل. سار الأمر بعد ذلك بصورة جيدة، وصُعِق الجميع في صف دراسة الكتاب المقدس للرجال من التجليات المذهلة لذلك الرجل الذي كان منتميًا للحُمْر سابقًا والعميل السري الحالي للقانون والنظام. دُعي بيتر مرة أخرى في الأسبوع التالي، وجاءت الدعوة هذه المرة من رابطة القديسين الشباب، وعندما أبلى بلاءً حسنًا هناك أيضًا، دعتْه جمعية الرجال المعلنين، ثم نادي البسكويت والجبن. بحلول ذلك الوقت، كان قد اكتسب ما أسمته جلاديس «الذكاء الاجتماعي»، وانتشرت شهرته كالنار في الهشيم، ثم جاءت اللحظة الفارقة أخيرًا، فقد استُدعي إلى بارك أفينيو لمخاطبة أعضاء جمعية الرفاهية، وهي منظمة رعوية تابعة لكنيسة الرحمة الإلهية!

كان هذا هو الهدف الذي وضعته جلاديس نُصب عينيها. كانت هذه هي اللحظة المهمة بالفعل، التي أُعِدَّ بيتر ودُرِّبَ من أجلها. كان منزلهما على بُعد بضع شوارع فقط من الكنيسة، لكن أصرت جلاديس على أنهما يجب أن يصلا إلى هناك في سيارة أجرة، وعندما دخلا قاعة الأبرشية وجاء القس دي ويلوبي ستوتربريدج، ذلك السيد الراقي الذي يشبه الإنجليز، وصافحهما، أدركت جلاديس أنها حققت أخيرًا ما كانت تصبو إليه. رافقها القس بنفسه إلى المنصة، وبعد أن قدم بيتر، جلس بجوارها، الأمر الذي أكَّد تأكيدًا راسخًا مكانتها الاجتماعية.

كان بيتر قد حفظ محاضرته عن ظهر قلب، وعرف منها الأجزاء التي تثير الضحك والتي تثير الدموع والتي تثير تصفيق الوطنيين، وأصبح نجاحه مضمونًا. بعد المحاضرة، أجاب بيتر عن الأسئلة التي طُرِحت عليه، ووزَّع اثنان من كتَبة بيلي ناش بطاقاتِ عضوية «رابطة تطوير أمريكا» على الحضور، وكانت رسوم عضويتها خمسة دولارات في السنة، والعضوية الدائمة تساوي خمسة وعشرين دولارًا في السنة، والعضوية مدى الحياة تساوي مائتي دولار نقدًا. صافح بيتر أعضاءَ من الطبقة الاجتماعية الأرقى في المدينة الأمريكية، وطلبوا منه جميعًا مواصلة العمل، فبلاده في حاجة إليه. في صباح اليوم التالي، نُشِر موضوع عن محاضرته في جريدة «التايمز»، وفي صباح اليوم الذي يليه، نُشِر مقالٌ حول تجلياته، مع وسم: «انضم إلى رابطة تطوير أمريكا».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤